وقد جرى هذا كثيرًا في الأندلس، وذكر ابنُ عاصم منه صورًا في "تحفة الحكام". وكان معاصره بتونس الشيخ ابن عرفة قد سار على منهجٍ في دراسته الفقهَ بُني على مناقشة الأنظار المختلفة بينها، وحسب ما يرى من أدلتها قوة وضعفًا، فانتهى به ذلك إلى الخروج في بعض اختياراته عما اختاره أصحاب المختصرات، مثل ابن الحاجب. تأثر بمنهجه ذلك تلاميذُه من التونسيين والجزائريين والمغاربة والأندلسيين والليبيين، وذهب القضاةُ منهم ينتهجون نهجَ الاختيار في أقضيتهم، وأكدت عليهم الاضطرابات الاجتماعية لزومَ اتباع ذلك المنهج قطعًا لِمَا فشا من الفساد والحيل.
فبدأ يتقرر بذلك في الأقطار المغربية عمل قضائي جار على خلاف المعروف من دواوين المذهب المالكي، وكانت اليد الطولى في اختيار أوجهه لقاضي القيروان في القرن التاسع الشيخ أبي القاسم ابن ناجي. فاهتم المعتنون بفقه القضاء بجمع تلك الأقضية، ونظموا فيها أراجيز عرفت باسم "كتب العمليات"، وألفت عليها شروح. فأصبحت العمليات وشروحها مادة لأسماء ومصطلحات كثيرة لا توجد إلا في القرون والأقطار التي جرى فيها العمل بتلك الأحكام، مثل "بيع الهواء" لإعطاء حق الاعتلاء على العقار بعوض، و"الخلو" لإعطاء حق الحبس "بوظيفة"، والإنزال للكراء المؤبد للحبس، و"المعاوضة" لدفع الحبس في مقابلة ما يشترى به عقار يعوض الحبس، و"الرسم" بمعنى وثيقة التملك، و"المفاصلة" لتصفية ما بين الشريكين عند انحلال الشركة، و"المبارأة" للاتفاق المنهي للمخالطة باعتراف كلٍّ من الطرفين ببراءة ذمة الآخر، و"العقلة" بمعنى توقيف الشيء وإخراجه من يد أحد المتنازعين، و"المناقلة" لتبادل وقفين بين المستحقين لهما، و"القطعة" بمعنى التبريء من تبعات أعمال الغير، و"شهادة اللفيف" بمعنى الذين لم يتحقق فيهم شرط العدالة الشرعية ويعتمد القاضي على استفسارهم. إلى غير ذلك مما أكثر في كتب العمليات وفي كتب التوثيق، وتجدد متتابعًا إلى أوائل القرن الحاضر، واختلف باختلاف البلدان بين تونس وقسنطينة وبجاية وتلمسان وفاس، وهي أم صناعة التوثيق ومصدر فقه القضاء وجريان العمل. واستتبع ذلك دخولَ ألفاظ كثيرة من لهجة التخاطب في استعمالات القضاء والتوثيق.