ولقد سبق هذا التطورَ الذي دخل على المعاني الفقهية وألفاظها الاصطلاحية نزعةٌ قوية إلى تحليل المعاني وتمحيصها، أنتجت تدقيقًا في المصطلحات والضوابط ارتبطت به التحاريرُ الفقهية في المذهب المالكي، وحفلت به الرسائل والفتاوى، واستندت إليه تصرفاتُ القضاة التي تولد عنها اختلافُ جريان العمل وتطوير الصيغ التوثيقية.
وهذه النزعة النظرية هي التي ظهر بها شهاب الدين القرافي بمصر في أواخر القرن السابع، وأبرزها في كتابه الشهير "كتاب الفروق" بما أحكم فيه من تحقيق المعاني الفقهية الهامة، وتدقيق العبارات المفصحة عنها بصورة تدفع الالتباس وتقابل بين المعاني بأسلوب حكيم، إذ تنبه إلى معاقد الفرق بينها.
وذلك ما زاد الفقهاء تعلقًا بالضبط، وحرصًا على وضع المعاني في نصابها، وأجرى على أقلامهم في القرن الثامن وما بعده دقائقَ العبارات التي اخترعها القرافي. فأصبحت مصطلحاتٍ مرجوعًا إليها ومحالًا عليها في تحقيق مناط الأحكام، مثل الفرق بين تمليك الانتفاع وتمليك المنفعة، والفرق بين مَنْ مَلَك أن يملك ومن انعقد له سبب المطالبة بالملك، والفرق بين الملك والتصرف، والفرق بين الذمة وأهلية المعاملة، والفرق بين الحكم والثبوت، والفرق بين النقل والإسقاط.
وذلك ما زاد في صقل المصطلحات الفقهية وجلائها بإرجاعها إلى هذه الفروق والضوابط العامة وربطها إليها، وفتح الباب لرجال من أئمة الفقه بالمغرب في القرن الثامن والقرن التاسع أن يمضوا في وضع القواعد والفروق مثل المقري والونشريسي.
وقد انضم إلى هذا العمل عملٌ آخر قُصِد به إلى ضبط المعاني الفقهية الفرعية بذاتها، بوضع حدود لأبواب العبارات وضروب المعاملات والعقود، بطريقة التحديد المنطقي الجامع المانع، وذلك ما قام به الإمام ابن عرفة التونسي في "المختصر" الذي ألفه في الفقه المالكي، واهتم فيه على الخصوص بما سماه "تعريف ماهيات