للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو في وضعها، صدرت منهم كلماتٌ تنبئ أنهم يتخيلون للعربية واضعًا هو شخصٌ واحد أو جماعة. فمن الناس مَنْ يقول: إن واضعَها هو يعرب بن قحطان، ومنهم مَنْ يقول: "الواضع" ولا يعينه. قال ابن الأثير في "المثل السائر":

"وحضر عندي في بعض الأيام رجلٌ من اليهود، وكنتُ إذ ذاك بالديار المصرية، وكان لليهود في هذا الرجل اعتقاد؛ لمكان علمه في دينهم وغيره، وكان لعمري كذلك. فجرى ذكرُ اللغات، وأن اللغة العربية هي سيدةُ اللغات، وأنها أشرفهن مكانًا وأحسنهن وضعًا، فقال ذلك الرجل: كيف لا تكون كذلك، وقد جاءت آخرًا فنفت القبيحَ من اللغات وأخذت الحسن؟ ثم إن واضعَها تصرَّف في جميع اللغات السالفة، فاختصر ما اختصر، وخفف ما خفف. فمن ذلك اسم الجمل؛ فإنه عندنا في اللسان العبراني كوميل مُمالًا على وزن فُوعيل، فجاء واضعُ اللغة العربية وحذف منها الثِّقلَ المسْتبشَع، وقال: جمل، فصار خفيفًا حسنًا، وكذلك فعل في كذا وكذا، وذكر أشياء كثيرة. ولقد صدق في الذي ذكره، وهو كلام عالم به". (١)

وقال ابن جني في "الخصائص":

"اعلم أن واضعَ اللغة لمَّا أراد صوغَها، وترتيبَ أحوالها، هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوهَ جملها وتفاصيلها، وعلم أنه لا بد من رفض ما شَنُع تألفُه منها، نحو هع وقج وكق، فنفاه عن نفسه". (٢)

فهذا يُنْبِئُ عما كانوا يتخيلون في صفة الوضع والواضع، وأن ذلك وضعُ شخصٍ أو جماعة تصدوا لوضع اللغة (٣)، فانتصبوا لذلك في أيام وساعات يركبون الحروف، ويبنون منها الكلمات، ويزيدون وينقصون، وقد حفت بهم أقوامٌ


(١) ابن الأثير، أبو الفتح ضياء الدين نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (بيروت: المكتبة العصرية، ١٤٢٠/ ١٩٩٩)، ج ١، ص ١٩٣. وقد ساق المصنف كلام ابن الأثير بتصرف واختصار وجلبناه بتمامه.
(٢) ابن جني: الخصائص، ج ١، ص ١١١.
(٣) في الأصل: "لواضعها"، ورأينا إثبات معاد الضمير تطلبًا للوضوح.

<<  <  ج: ص:  >  >>