للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

متشوِّفون إلى نتيجة عملهم طيلةَ مدة الاشتغال بالوضع، فيُلقِّنونَهم كلَّ يومٍ أو كلَّ ساعة ما بثّوا وضعَه (١) من الكلمات الدالة على أشياء.

فيخرج أولئك الأقوام سراعًا يتكلمون بما قُسم لهم في ذلك اليوم، ويبثونه في أهلهم وأحيائهم؛ لأن مثلَ هذا العمل لا يساعد على إيجاده حالُ المجتمع القديم في البساطة لاحتياج هذا إلى نظام علمي وتواطؤ عقلي.

ولم يكن في أحوال الأمم ما يسمح بتكوين هذا النظام العلمي، بل المعروف أن الأمم لما أخذوا يتدرجون في الحضارة على اختلاف مبالغهم وحظوظهم فيها، وجدوا لأنفسهم لغةً سابقة على يقظتهم المدنية، ثم هو لا تساعد على انتظاره وتلقيه (٢) حاجةُ الناس إلى الإعراب عما في ضمائرهم، إذ لا تطيق أنفسُهم أن يبقوا خرسًا مدة من الزمن حتى يفرغ الواضع من وضعه.

وإنما المراد من الوضع عند إطلاقه، هو ما حصل في لغة العرب من مجموع نتائج خطبائهم، وشعرائهم، وحكمائهم، وفصحائهم، وأهل التأنق من محدثيهم في أنديتهم وأسمارهم، من كل من شهدوا له بحسن الذوق، وجرَّبوا منه حسنَ الابتكار، من رجال قبائل كثيرة العدد، وعصور عريقة في القدم، وتصرفهم في اللغة التي نشؤوا عليها، وتلقوها من أسلافهم، تصرفَ التهذيب والاختبار.

فلم يزالوا بسلامة أذواقهم، يهذب اللاحقُ منهم ما نطق به سلفُه في صناعته اللسانية من مفردات الكلام، وصيغ التراكيب، ليأتوا بالأحسن فالأحسن، الخفيف المنطق، الحسن المسمع، من غير أن يُودِعُوا ذلك في سِفْر، ولا أن يتراسلوا به في كتاب. وإنما يودعونه أشعارَهم وخطبَهم وأمثالَهم وجوامعَ كَلِمِهم، عند احتشاد المجامع، واكتظاظ الأندية. فيتلقفُه عنهم مَنْ شهد تلك المجامعَ والأندية، ويحفظونه عن ظهر قلب (والعرب معروفون بقوة الحافظة).


(١) جاءت بعد هذا الموضع عبارة "عليه"، ويبدو أنه لا داعي لها فحذفناها.
(٢) ضمير المفرد الغائب في لفظتي انتظاره وتلقيه عائد إلى النظام العلمي.

<<  <  ج: ص:  >  >>