للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكانت المجامعُ في عكاظ، وفي ذي المجاز، وفي موسم الحج بمكة وبمنى، قائمةً لهم مقامَ المؤتمرات والمجامع اللغوية. فربما سمعوا اسمَ الشيء عند قبيلة خفيفًا على اللسان، متناسبَ الحروف، فأخذته قبيلةٌ أخرى وكثر في كلامها. فتارة يُميتون مرادفَه في لسانهم، مثل الصبير والجحلنجع (١). وتارة يشيع اللفظان بينهم، فيجيء الترادف. قال أبو هريرة (وهو من دوس): "ما سمعتُ السكينَ حتى سمعتُ قولَ رسول الله في الحديث عن سلمان: "إيتوني بالسكين"، وما كنا نقول إلا المدية". (٢)

ولقد بعد عهدُنا بعصر العرب الأول حتى نتقصَّى بعضَ ما صدر من أهل بلاغتهم من مبتَكَرات استعمال الألفاظ في المجامع، فيتسنى لنا التمثيلُ ببعض ذلك في مقامنا هذا. ولكنا نعرف حادثةً قد تصلح أن تكون مثالًا هنا، وهي ما رواه أبو هلال العسكري أن كعب بن زهير لَمَّا أنشد الرسولَ - عليه السلام - قصيدتَه المعروفة فبلغ قوله في وصف الناقة:


(١) في قول أبي الهميسع، وهو شاعر قديم من شعراء مدين: "من طمحة صبيرها جحلنجع". - المصنف. وذلك في قوله:
إِنْ تَمْنَعِي صَوْبَكِ صَوْبَ المَدْمَعِ
يَجْرِي عَلَى الخَدِّ كَضِئْبِ الثَّعْثَعِ
مِنْ طَمْحَةٍ صَبِيرُهَا جَحْلَنْجَعِ
قال الفيروزآبادي بعد ذكرها: "ذكروه ولم يفسروه، وقالوا: كان أبو الهميسع من أعراب مدين، وما كنا نكاد نفهم كلامه". الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، قدم له وكتب حواشيه الشيخ أبو الوفاء نصر الهوريني (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٢٨/ ٢٠٠٧)، ج ٣، ص ١٣ (باب العين: فصل الجيم).
(٢) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ""كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت: الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى". قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية". صحيح البخاري، "كتاب أحاديث الأنبياء"، الحديث ٣٤٢٧، ص ٥٧٦ - ٥٧٧؛ "كتاب الفرائض"، الحديث ٦٧٦٩، ص ١١٦٧؛ صحيح مسلم، "الأقضية"، الحديث ١٧٢٠، ص ٦٨٢. واللفظ للبخاري.

<<  <  ج: ص:  >  >>