للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جرهم، وكانت تتكلم باللغة الكلدانية، أخت اللغة العربية، وأصل اللغة العبرانية. فاضطر المتجاوران للتعارف، واقتبس بعضُهم لغةَ الآخر. وكان حكمُ الطبع قاضيًا أن تتغلب لغةُ جُرْهُم على لغة امرأة نزلت بين ظهرانيهم، لكن ذلك لا يمنع أن تكون اللغةُ الغالبة قد اجتذبت بعضَ كلماتٍ انتخبتها من اللغة الجديدة حَسُن وقعُها في أسماع القبيلة.

وقد رأيتُ بعضَ الأدباء يزعمون أن اللغةَ العدنانية تميزت عن القحطانية بسبب دخول العَبْرانية فيها، وتصرف العرب في اللغة العبرانية بالتهذيب، كما حكاه ابن الأثير في "المثل" أن بعضَ علماء اليهود بالديار المصرية علَّلَ فصاحةَ العربية بأنها جاءت آخرًا فنفت القبيحَ من اللغات قبلها، وأخذت الحسنَ وخففته؛ فمن ذلك اسم الجمل فإنه في العبراني كوميل فصار في العربية جمل. قال ابن الأثير: "لقد صدق في الذي ذكره، وهو كلامُ عالِمٍ به". (١)

وأنا أَعُدُّ هذا جهلًا من اليهودي بقدم العربية، وظنًّا منه أن العربَ تكلموا بالعربية بعد إبراهيم الخليل. والحقيقةُ أن العربية أقدمُ من العبرانية، فإن قحطان أعلى طبقةً في سلسلة النسب السامي من إبراهيم الخليل، وتماثُلُ الكلمات في لغتين لا يعيِّن كونَ أحدهما فرعًا عن الأخرى؛ لأن تعيين الأصل منهما لا يخلو من تحكم.

على أنِّي أرى أن إبراهيمَ ما وقع اختيارُه في وضع أهله في بلاد العرب إلا وكان رائدُه الأول في ذلك إمكانَ عيش زوجه وابنه بينهم. وأولُ وسائل ذلك اتحادُ اللغة أو تقاربُها، أو تقاربُ الأخلاق والعوائد. ثم إنِّي لا أستبعد أن إبراهيمَ الذي عُرِفَ بأنه داعيةُ صلاح، وناشرُ حضارة وتهذيب - والذي قد جاب البلادَ يدعو إلى الدين وإلى نبذ الوثنية، وإلى أصول الحضارة والمدنية، فدعا إلى إصلاح التفكير


(١) انظر المثل السائر، صفحة ١١٣ طبع بولاق سنة ١٢٨٢ هـ. - المصنف. سبق توثيقُ ما حكاه ابن الأثير من الطبعة المحققة لكتاب "المثل السائر".

<<  <  ج: ص:  >  >>