للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بأن اختلافَ وضعِهما لا بد أن يكون مؤثِّرًا في فرق ما بينهما، فيظهر له أثرٌ في مواضع استعمالهما، فتظنَّ أن "غيرًا" تكون أولَى بالتعبير عن المعنى المقصودُ منه إثباتُ شيءٍ موجودٍ مغايِرٍ للمضاف إليه، وتظن أن "دون" أولَى بالتعبير عن معنى مقصودٌ منه الإخبارُ بالمضادة والتجافي للمضاف إليه، فإذا تأملتَ في قول المعرّي:

لَا تَطْلُبَنَّ مِنْ غيرِ حَظٍّ رُتْبَةً ... قَلمُ البَلِيغِ بِدونِ حَظٍّ مِغْزَلُ (١)

بان لك تضلعُ المعرِّي في العربية، وحسنُ اختياره لوقع الكلام؛ لأنه لمَّا أراد اليأسَ من تطلب المرتبة الرفيعة بشيء من الأشياء غير البخت أتى بلفظة "غير" الدالة على الذات لمناسبة تعلق الطَّلَب بالذات، ولما أراد إفادةَ عدم جدوى البلاغة بدون بخت أثبت أن قلم البليغ إذا حلَّ في مكان بعيد عن الحظ، كان كالمِغْزل. فلو أن المعري عكس فجاء بدون في الأول، وغير في الثاني، لكان صحيحًا في الظاهر خطأ عند التأمل، إذ لا يتعلق المطلب بالدون، ولا يكون قلم البليغ مصاحبًا لأشياء هي مغايرة لحظ، ولو أتى بكلمة غير فيهما أو بدون فيهما لمَا سلم من الخطأ في أحد اللفظين.

ومع تحذيرك من الغفلة عن هاته الفروق، ينبغي لك أن تحذر من الغلوِّ في دعوى وجود الفرق بين مترادفات كثيرة. فيرمى بك ذلك إلى تعسفاتٍ ثقيلة، مثل مَنْ تطلَّب الفرقَ بين القعود والجلوس، وبين النأي والبعد، وبين الكذب والمين.


(١) لم أجده في اللزوميات ولا في سقط الزند، وقد ذكر ابنُ كثير وابن خلكان البيتين التاليين منسوبين للمعري، حيث جاء أولهما مختلفًا قليلًا عما أورده المصنف، وهما:
لَا تَطْلُبَنَّ بِآلَةٍ لَكَ رُتْبَةً ... قَلَمُ البَلِيغِ بِغَيْرِ جَدٍّ مِغْزَلُ
سَكَنَ السِّمَاكَانِ السَّمَاءَ كلَاهُمَا ... هَذَا لَهُ رُمْحٌ وَهَذَا أَعْزَلُ
ابن كثير القرشي الدمشقي، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر: البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (القاهرة: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط ١، ١٤١٧/ ١٩٩٧)، ج ١٥، ص ٧٥٣؛ ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد ابن أبي بكر: وفيات الأعيان، ج ١، ص ١١٤. هذا ومعنى البيت كما أورده المصنف أقوم ولفظه به أسعد.

<<  <  ج: ص:  >  >>