يصلحون عبارة "القاموس"، ولا يبعد أن يكون وقوعُ ذلك في نسخة اللسان من تصرفات الناسخ أيضًا، فينبغي أن نشتغل بتفسير لفظة محنة الذي هو المشهور من عبارة الخليل.
والمحنة ما يُمتحن به المرء من المصائب؛ فصوتُ ذي المحنة يكون فيه غلظ وبحة، ويقال له: صوت أجش، وهو الذي يخرج من أعلى الحلق والخياشيم. وذلك مما يضخم الصوتَ فيصير كأنه جُسِّد، فيكون المجسَّد بمعنى المضخَّم. وقريبٌ منه وصفُ الأصوات بالثقيل تارة وبالخفيف أخرى، كما تجده في كتاب الأغاني. والثِّقل والخفة من صفات الأجسام، فعلى صحة هذا اللفظ يكون الصوتُ المجسَّد من صفات أصوات الحزن في النياحة ونحوها.
وأما على ما في نسخة "القاموس" الخفاجية من لفظ "مجنة" - بالجيم وبالضبط بكسر الميم وسكون الجيم كما تقدم، في صيغة هيئة مشتقة من المجن، والمجن يرجع إلى معاني اللهو والهزل والانخلاع. وشأن اسم الهيئة إذا لم يضف إلى ما يميز هيئته أن يكون اسْمًا لهيئة الجنس المشتق هو من لفظه، أعني أن يكون اسْمًا للمصدر كقولهم الحيطة بمعنى الاحتياط والحيضة بمعنى الحيض - فإذا صحت هذه اللفظةُ على هذا الوجه، كان المعنى واضحًا؛ فإن شأن الغناء أن يكون في مقام المجون والطرب.
فأما لفظ "محسنة" الواقع في طبعة "اللسان" وبعض نسخ "القاموس"، فلا أراه يستقيم له معنًى مع دخول حرف الاستعلاء عليه. ولا أشاطر الأستاذَ الكرملي في توجيهه؛ لأن المعنى المقصود من الصوت المجسد لا يختص بالمرأة المغنية، بل أكبر الأصوات إتقانًا وإبداعًا هو من صنعة مغنين كالموصلي ومعبد ومخارق وأضرابهم. على أني لا أرى في الفقرات التي استشهد بها الأستاذ الكرملي لتوجيه لفظ "محسنة" ما يقتضي اعتبارهم ذلك اللفظ اعتبار الأسماء الصناعية، بل ليس هو إلا من الأوصاف المشتقة المعروفة، وحسبك أنه لم يثبت له ذلك المعنى في شيء من دواوين اللغة.
فهذا ما بدا من النظر في إقامة هذه الكلمة الخليلية نكله إلى تحقيق رجال المجمع ونشفعه بأطيب تحية.