للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأعلم أن القصدَ الأول للمخبر من خبره هو إفادته المخاطبَ الحكم (١)، وقصد المتكلم بالجملة الإنشائية إيجادُ مدلول الإنشاء. ففي الأمر يُقصد إيجادُ المأمور به، ويُسمَّى الامتثال. وفي النهي يُقصد عدمُ إيجاد الفعل، ويُسمَّى الانكفاف. وفي الاستفهام يُقصد الجواب بالإفهام، وهكذا.

وقد يُخاطَب بالخبر مَنْ يعلم مدلولَه، ويخاطب بالإنشاء من يحصل منه الفعلُ المطلوب، فيُعلم أن المتكلم قصد تنزيلَ الموجود منزلةَ المعدوم لنكتة قد تتعلق بالمخاطب:

إما لعدم جري العالم على موجب علمه كقول عبد بني الحسحاس: "كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيًا" (٢)، فإن المقصود منه تذكيرُ مَنْ لم يزعه الشيب والإسلام، إذ قد علم كلُّ الناس أنهما وازعان.

وإما لأن حاله كحال ضده، كقولك للتلميذ بين يديك إذا لم يتقن الفهم: يا فتى، فإنك تطلب إقباله وهو حاضر، لأنه كالغائب.


(١) إذ لا يقصد المتكلم من كلامه مجردَ النطق به، كالسعال والأنين. وأما قول الحطيئة:
أَبَتْ شَفَتَايَ اليَوْمَ إلَّا تَكَلُّمًا ... بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهْ
فذلك ضربٌ من التمليح؛ إذ جعل نفسَه لا يستطيع البقاءَ بلا هجاء. - المصنف. وفي رواية: "بشر" بدل "بسوء". والبيت هو الأول من بيتين، والثاني هجا فيه نفسه فقال:
أَرَى لِيَ وَجْهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ ... فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهْ
ديوان الحطيئة، ص ١١٨.
(٢) وتمام البيت:
عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيَا ... كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيَا
وهو طالع أطول قصائده وأشهرها، وكان المفضل الضبي يسميها الديباج الخسرواني، كما ذكر محقق ديوان سحيم. ديوان سحيم عبد بني الحسحاس، تحقيق عبد العزيز الميمني (القاهرة: دار الكتب المصرية، ١٣٦٩/ ١٩٥٠)، ص ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>