للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لأن الشاعر جاهلي، وظاهرُ كلامه يُشعر بأنه يعتقد أن مرورَ الزمان هو سبب الشيب، إذ لم ينصب قرينةً على أنه يعلم أن ذلك ليس سببًا للشيب. والنفي كقوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: ١٦، الأنعام: ١٤٠، يونس: ٤٥].

والمجاز العقلي إسنادُ الشيء إلى غير ما هو له في متعارَف الناس إثباتًا أو نفيًا، لملابسة بين المسنَد والمسنَد إليه. ومعنى الملابسة المناسبةُ والعلاقة بينهما. فأشهر ذلك أن يُسند الفعلُ إلى المتسبِّب فيه، كقول أم زَرْع: "أَنَاسَ مِنْ حُلِيِّ أُذُنَيَّ، وَمَلَأَ مِنْ شَحْمِ عَضُدَيَّ" (١)؛ فإن زوجها لَمَّا اشترى لها النواسَ لتلبسه في أذنيها فهو قد أناس أذنيها، وهذا قريبٌ من الحقيقة. ولَمَّا أفاض عليها الخيرَ والراحة حتى سمنت، فقد تسبَّب في ملء عضديها بالشحم، وهذا مجازٌ عقلي لملابسة السببية.

وهناك ملابساتٌ كثيرة نحو {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٧)} [الحاقة: ٢١، القارعة: ٧]، مع أن الراضي صاحب العيشة، ونحو: نهر جار مع أن الجاري ماؤه، وأنبت الربيع العشب؛ لأن الربيع زمنُ الإنبات، [ونحو] {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (١٧)} [المزمل: ١٧]، {يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠)} [الإنسان: ١٠]. والنفي كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: ١٦]، فإن نفيَ الربح لم يُتعارَفْ إسنادُه للتجارة، بل إنما يثبت الربح وينفى عن


= الصلتان العبدي"، والبيت هو الأول من مقطوعة من ثمانية أبيات في ديوان الحماسة ومن سبعة عند الجاحظ. وطالعها:
أَشَابَ الصَّغِيرَ وَأَفْنَى الكَبِيـ ... ـرَ كَرُّ الغَدَاةِ وَمَرُّ العَشِي
إِذَا لَيْلَةٌ هَرَّمَتْ يَوْمَهَا .... أتى بَعْدَ ذَلِكَ يَوْمٌ فَتِي
وخاتِمتُها كما عند الجاحظ:
أَلَمْ تَرَ لُقْمَانَ أَوْصَى بَنِيـ ... ـه وَأَوْصَيْتُ عَمْرًا فَنِعْمَ الوَصِي
وَسِرُّكَ مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الخَفِي
الجاحظ: كتاب الحيوان، ج ٣، ص ٤٧٧ - ٤٧٨.
(١) صحيح البخاري، "كتاب النكاح"، الحديث ٥١٨٩، ص ٩٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>