للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والمحسِّناتُ البديعية كثيرة لا تنحصر عدًّا وابتكارًا، ويكفي المبتدئَ أن يعرف مشهورَها من القسمين: اللفظي والمعنوي. أما المعنوي فمنه التجريد، وهو أن يُنتزع من أمرٍ ذي صفةٍ أمرٌ آخر مثلُه في تلك الصفة انتزاعًا وهميًّا حتى تصير الذاتُ الواحدةُ ذاتين مبالغة لكمال الوصف في تلك الذات، كقولهم: "لي منك صديق حميم" و"لئن سألت فلانًا لتسألن به بحرًا". ومن هذا مخاطبةُ المرء نفسَه، وذلك كثيرٌ في الشعر كقول النابغة:

دَعَاكَ الهَوَى وَاسْتَجْهَلَتْكَ المَنَازِلُ ... وَكَيْفَ تَصَابِي المَرْءِ وَالشَّيْبُ شَامِلُ (١)

ومنه طالعُ قصيدة البردة البصيرية "أمن تذكر جيران" البيت (٢).

ومنه المبالغةُ المقبولة، وهي ادعاءُ بلوغِ وصفٍ في شدته أو ضعفه مبلغًا يبعد أو يستحيل وقوعُه. وأصدقُها ما قُرن بلفظ التقريب، نحو {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: ٣٥]، ودونه ما عُلِّق على ما لَا يقع، كقول المتنبي:

عَقَدَتْ سَنَابِكُهَا عَلَيْهَا عِثْيَرًا ... لَوْ تَبْتَغِي عَنَقًا عَلَيْهِ أَمْكَنَا (٣)


(١) ديوان النابغة الذبياني، ص ١٨٤ (نشرة ابن عاشور)، ص ١١٥ (نشرة إبراهيم). والبيت هو الأول من قصيدة يرثي فيها النعمان بن الحارث بن أبي شمر بن حُجر بن جبلة الغساني.
(٢) وتمام البيت:
أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمٍ ... مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ
انظر القصيدة كاملة في: ابن عاشور، محمد الطاهر (جد المصنف لأبيه): شفاء القلب الجريح بشرح بردة المديح، تحقيق محمد عواد العواد (دمشق: دار التقوى، ١٤٢٦/ ٢٠٠٦)، ص ٣٩٥ - ٤٠٠.
(٣) السنابك: جمع سنبك، وهو طرف مقدم الحافر. والعِثْيَر: الغبار. والعَنَق: ضرب من السير عليه يسير. والمعنى: عقدت سنابكُ الخيل فوقها غبارًا كثيفًا لو تطلب السير عليه لأمكن من كثافته. وهذا المعنى مأخوذٌ من قول العتابي:
تَبْنِي سَنَابكُها مِنْ فوق أَرؤُسِهم ... سَقْفًا كَوَاكِبُهُ البِيضُ البَوَاتِيرُ
والبيت من قصيدة يمدح فيها بدر بن عمار، وطالعها:
الحُبُّ مَا مَنَعَ الكَلَامَ الألسُنَا ... وَأَلذُّ شَكْوَى عَاشِقٍ مَا أَعْلَنَا
البرقوقي: شرح ديوان المتنبي، ج ٤، ص ٣٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>