إن هذه الشريعة إرشادٌ صِرْف، وإن للفضائل والصالحات تضاؤلًا وتخلُّقًا بكرور الأزمان، وإن لدأب النفوس في المسير حنفًا وانْحرافًا إذا امتد الميدان. من أجل ذلك، ضمن الله لهذا الدين حفظَه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩)} [الحجر: ٩]؛ وإن لحفظه ثلاثةَ مقامات:
أولُها: مقامُ الرجوع إلى أصل التشريع عند الإشكال، وهو مقام العمل بآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩)} [النساء: ٥٩].
وثانيها: مقامُ تجديد ما رثَّ من أصول الدعوة، وهو مقام العمل بآية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)} [آل عمران: ١٠٤].
وثالثها: مقام الذب عنه وحمايته، وهو مقام: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧)} [محمد: ٧].
وكلا المقامين الأولَيْن لا يقفه إلا الفقيهُ في الدين؛ وهو المجتهدُ العارف بالطرق الموصلة إلى الغايات المقصودة من التشريع الإسلامي، بحيث تصير معرفةُ الشريعة - وسائلها ومقاصدها - مَلَكَةً له؛ أي عِلْمًا راسخًا في نفسه، لا تشذ عنه مراعاتُه والإصابةُ فيه عند جَوَلان فكره في أمور التشريع. وبمقدار ما يكون عددُ هؤلاء الفقهاء مبثوثًا بين المسلمين تكون حالتُهم قريبة من الاستقامة، كما يكون أمرُهم صائرًا إلى التضاؤل بمقدار قلة وجود هذا الفريق بين أظهرهم.
ففي الحديث الصحيح: "لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق، لا