للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وملكةُ الإنشاء تُكتَسبُ من جهة المعنى ومن جهة ما يعبر عن المعنى، وهو اللفظ والكتابة (١). فالأولُ ينحصر في معرفة إيجاد المعنى في الفكر، وترتيبه، والاستنتاج منه. والثاني يبحث عن حال اللفظ، ومناسبته للمعنى مفردًا أو مركبًا، وذلك أصولُ أساليب الكتابة.

هذا وللإنشاء فضيلةٌ واضحة؛ فإنه لم يخل عصرٌ من رجال تمكَّنوا من سَوْقِ غيرهم بعِصِيَّ آرائهم، ففي الحديث: "إن من البيان لسحرا". (٢) وقد اختار الله تعالى المعجزةَ لأصحاب اللسان العربي بلاغةَ القرآن. وقديمًا ما عالج ديموستين (٣) - الخطيبُ اليوناني - من العناء ليتدرَّب على الخطابة التي تمكَّن بها بعدُ من قهر فيليبوس ملك مقدونيا ووالد الإسكندر. وسمع أميرُ المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زياد بن أبي سفيان - وكان يومئذ لا يُدعى لأبيه - يخطب في زمن عمر - رضي الله عنه - فقال: "لو كان هذا الفتى قرشيًّا لساق العربَ بعصاه". (٤) ولولا مكانةُ عبد الله ابن المقفع الشهير في الكتابة لمَا سلم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس أخو السفاح من غدر


(١) اعلم أن مقامَ الكتابة في فنِّ الإنشاء غيرُ مقام القول، فقد يحسن في الكتابة ما لا يحسن في الخطابة، أو في المحادثة والعكس. فلا يصح أن يكتب المرء كما يقول، ولا العكس. - المصنف.
(٢) سبق تخريجه.
(٣) ديموستين Demosthenes زعيم يوناني ولد في أثينا عام ٣٨٤ قبل الميلاد، كان خطيبًا مصقعًا، ورجلَ دولة مشهور. درس وحفظ خطبَ السابقين عليه من أكابر خطباء اليونان، وكان لخطبه أثرٌ بالغ في تحريك الثورة في مدينة أثينا ضد ملك مقدونيا الإسكندر الأكبر. وقد استغل ديموستين مهارته الخطابية في المرافعة عن موكليه أمام المحاكم، وفي كشف أوضاع الظلم والفساد التي كانت سائدة في أثينا. توفي سنة ٣٢٢ قبل الميلاد.
(٤) الصحيح أن قائلَ هذا الكلام هو عمرو بن العاص لا علي بن أبي طالب. ابن العربي: العواصم من القواصم، ص ٣٤٢ (وفيه أن أبا سفيان قال معقبًا على كلام ابن العاص: "أما والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه".)؛ الوطواط، أبو إسحاق جمال الدين محمد بن إبراهيم بن يحيى الكتبي: غُرر الخصائص الواضحة وعُرر النقائص الفاضحة، نشرة بعناية إبراهيم شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤٢٩/ ٢٠٠٨)، ص ٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>