للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قبرًا، ولم يطْرُقْ لسامعه فكرا. وبالعكس قد تغطِّي الألفاظُ الحسنة في حال تركيبها بسائطَ المعاني ومبتذَلها. فإن الشاعرَ أو الكاتبَ أو الخطيب قد يُضطرُّ إلى أن يذكر من المعاني ما ليس له كبيرُ أهمية، إما لكونه على قدر أفهام مخاطَبيه، وإما لكون ذلك المعنى لا يقبل تنميقًا فيلزمه حينئذٍ أن يكسوَ المعنى من حلية الألفاظ ما يُنَبِّهُ مقدارَه، ويعلي مناره. وترى هذا في كثيرٍ من الشعر التوصيفي، كما قلنا فيما تقدم. قال الجاحظ: "إن المعاني إذا كُسيت الألفاظَ الكريمة، وأُلبست الأوصافَ الرفيعة، تحولتْ في العيون عن مقادير صورها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحرا"". (١)

وإلى هذا الحال من المعنى واللفظ (٢) يشير قولُ قدامة (٣) وعبد القاهر - في مواضع -: إن المعاني مطروحةٌ بالطريق، يستوي في تناولها القرويُّ والبدويُّ، ويهديه


(١) جزء من كلام طويل لم ينسبه الجاحظ إلى نفسه، وإنما ذكر أنه من موعظة لمن وصفه بأنه "بعض الربانيين من الأدباء وأهل المعرفة من البلغاء، ممن يكره التشادقَ والتعمق، ويبغض الإغراق في القول" إلخ، ولعله يقصد بهذه الأوصاف نفسه، وتمام الكلام بعد الاقتصار على ما يتعلق بالعلاقة بين الألفاظ والمعاني: "أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظًا حسنًا، وأعاره البليغ مخرجًا سهلًا، ومنحه المتكلم قولًا متعشَّقًا، صار في قلبك أحلى ولصدرك أملا. والمعاني إذا كُسيت الألفاظ الكريمة وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها، بقدر ما زُيِّنت وعلى حسب ما زُخرفت. فقد صارت الألفاظ في معنى المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري. . . ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحرا"". البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ١٧٣ - ١٧٤. والحديث سبق تخريجه.
(٢) قولي: "وإلى هذا الحال من المعنى واللفظ"، يعني أن مَنْ فضَّل جانبَ اللفظ على جانب المعنى، فإنما نظرَ إلى حالِ المعاني البسيطة إذا كُسيت الألفاظَ الحسنة، وإلى حالِ المعاني الجليلة إذا عُبِّر عنها بألفاظ غير حسنة. - المصنف.
(٣) قدامة بن جعفر الكاتب البليغ، أبو الوليد البغدادي المتوفَّى في أوائل المائة الرابعة، ألف كتاب سر البلاغة المعروف بنقد الشعر. - المصنف. يقول قدامة: "وما يجب تقدمتُه وتوطيدُه قبل ما أريد أن أتكلم فيه أن المعاني كلَّها معرضةٌ للشاعر، وله أن يتكلم منها في ما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه". قدامة ابن جعفر: نقد الشعر؛ ص ٥٦ (وانظر بقيةَ كلامه في المثل الأعلى لصناعة الشعر، وأركانها وتدرج الشعراء فيها بين طرفين، هما غاية الجودة وغاية الرداءة، وبينهما وسائط. ص ٥٥ - ٦١). قال الميساوي: والصواب في كنية قدامة: أبو الفرج، لا أبو الوليد.

<<  <  ج: ص:  >  >>