للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما الرَّشَاقَةُ فهي مناسَبَةُ حالِ اللفظ لمقام الكلام؛ فإن الألفاظَ منها جَزْلٌ، ومنها سَهْل. فالجزلُ يُستعمَلُ في ذكر الحروب، والحماسة، والتوبيخ، ونحوها. والسَّهلُ في مقام الملاطفة، والغزل، والمديح. ومنها ما لا يُوجِبُ شيئًا من الأمرين. والتحقيقُ أن كل هذا لا يَتْبَعُ وصفَ الألفاظ في ذاتها؛ إذ ليس وصفُها مختلفًا، ولكنه يَتْبَعُ جلبَ بعضِ الألفاظ وترك البعض بحسب المقام، كما حسن استعمالُ "سيِّدتي" في قول أبي العتاهية:

أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَالَهَا ... تُدِلُّ فَأَحْمِلُ إِدْلَالَهَا (١)

ولو جِيءَ به في مقامٍ آخر لقَبُح. وقد عيب على جميل قولُه:


(١) البيت هو طالع قصيدة قصيرة أنشدها أبو العتاهية في مجلس الخليفة العباسي المهدي. قال أشجع السلمي الشاعر المشهور: "أذن الخليفة المهدي للناس في الدخول عليه فدخلنا، فأمرنا بالجلوس، فاتفق أن جلس بجنبي بشار بن برد. وسكت المهدي فسكت الناس، فسمع بشار حسًّا فقال لي: من هذا؟ فقلت: أبو العتاهية، فقال: أتراه ينشد في هذا المحفل؟ فقلت: أحسبه سيفعل، فقال: فأمره المهدي أن ينشد، فأنشد:
أَلَا مَا لِسَيِّدَتِي مَا لَهَا؟ ... أَدَلَّتْ، فَأَجْمَلَ إِدْلَالُهَا
قال: فنخسني بشار بمرفقه وقال: ويحك! أرأيتَ أجسرَ مِنْ هذا؟ ينشد مثلَ هذا الشعر في مثل هذا الموضع، حتى بلغ إلى قوله:
أَتَتْهُ الْخِلافَةُ مُنْقَادَةً ... إِلَيْهِ، تُجَرِّرُ أَذْيَالَهَا
فَلَمْ تَكُ تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ ... وَلَمْ يَكُ يِصْلُحُ إِلَّا لَهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ ... لَزُلْزِلتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ ... لمَا قَبِلَ اللهُ أَعْمَالَهَا
فقال لي بشار: انظر ويحك يا أشجع، هل طار الخليفة عن عرشه؟ قال أشجع: فوالله ما انصرف أحدٌ عن هذا المجلس بجائزة غير أبي العتاهية". ديوان أبي العتاهية (بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر، ١٤٠٦/ ١٩٨٦)، ص ٣٧٥؛ الأغاني (نشرة الحسين)، ج ٢/ ٤، ص ٢٧ - ٢٨ (وفيه "أَدَلًّا" عوض "تدل" و"أدلت").

<<  <  ج: ص:  >  >>