معينًا على النسج على منواله، كما يُقال:"الحديث شجون"(١). وكذلك التخلصُ من المقدمة إلى الغرض، فإنه يحتاج إلى فضلِ براعةٍ في الارتباط بينهما. وكذلك الختام؛ لأنه يجب أن يكونَ قد استوعب ما تكلم لأجله حتى لا يثني إليه عنانَ الكلام مرةً أخرى بعد السكوت. ولا جرمَ أن يكون ما يتخلل بين هذه الثلاثةِ رشيقًا بليغًا، متى سهلت على المتكلم الإجادةُ في هذه الثلاثة. وهذا هو المرادُ من التأنُّقِ الذي حَرَّضَ عليه أئمةُ البلاغة في هاته المواضع الثلاثة.
ولنرجِعْ إلى الحالةِ السادسة من أحوال الألفاظ المركَّبة، وهي مناسبةُ الكلام للغرض بأن يُناسِبَهُ في الرِّقَّة والجَزَالة، وبأن تُنَاسِبَهُ كيفيةُ انتظامه: من سجع، وترسل، وإيجاز، وإطناب، وبساطة وضعه. وهذا أهمُّ شيءٍ في الإنشاء بعد ما تقدم وأصعبُه.
ومن الأدباء مَنْ يُقَسِّم الإنشاءَ إلى عالٍ وَوَسَطٍ وسافل، فيظن مَنْ لا يتأمل أن هذا التقسيمَ يدخل في التعليم، وهو غلط؛ إذ التعليمُ لا يقصد إلا الغايةَ العليا من
(١) الصيغة المعروفة هي قولهم: "الحديث ذو شجون". قال أبو هلال: "وهو على ما تقول العامة: الحديث يجر بعضه بعضًا". وأول مَنْ أرسل هذا المثل ضبَّة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مُضرَ بن نزار. وذلك أنهُ كان لهُ ابنان يقال لأحدهما سعد، وللآخر سعيد، فنفرت إبلٌ لضبَّة في الليل، فأرسل ولديه في طلبها فتفرَّقا فوجدها سعدٌ وردَّها، وبقي سُعيدٌ ماضيًا في طلبها. فلقيَهُ الحارث بن كعب، وكان على الغلام بُردان، فسأَله إيَّاهما فأبى عليه، فقتله وأخذهما. ولما أبطأَ سعيدٌ جزع عليه أبوه وأقام ينتظرهُ متوقعًا رجوعَه، فكان إذا رأَى سوادًا في الليل قال: أسعدٌ أم سُعَيدٌ؟ فذهب قولهُ مَثَلًا. ثم إن ضبَّة حجَّ فوافى عكاظ فلقي بها الحارث، ورأى عليهِ بُردَيْ ابنهِ سعيد فعرفهما، فقال له: ما أحسن هذين البردين، فمن أين أخذتهما؟ فقال: لقيت غلامًا فقتلتهُ وأخذتهما، فقال أبِسيفك هذا؟ قال نعم، فقال أرني إياهُ فإني أظنُّه صارمًا، فلمَّا أخذهُ من يدهِ هزَّهُ وقال: "إن الحديث ذو شجون"، ثم ضربهُ بهِ فقتله. وكان ذلك في الشهر الحرام، فلامهُ بعض من حضر على قتلهِ فيه، فقال: "سبق السيفُ العَذَل"، فأرسلها مثلًا. العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل: كتاب جمهرة الأمثال، تحقيق أحمد عبد السلام وأبي هاجر محمد سعيد بن بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤٠٨/ ١٩٨٨)، ج ١، ص ٣٠٣ - ٣٠٤. ومعنى "الحديث ذو شجون" أن الكلام يذكر بعضه ببعض ويجر بعضه إلى بعض وتتشعب المسائل فيه بعضها عن بعض، لما بين أغراض الحديث من اتصال بعضها ببعض وتقاطع فيما بينها. وعادةً ما يُساق هذا المثلُ في مقام الاستطراد والخروج عن الغرض الرئيس للكلام.