للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأشدُّ مَنْ يظهر احتياجُه إلى رَعْيِ قواعدِ هذا الاتصال الخطباء، فإن من دأبهم التطرقَ إلى موضوعاتٍ كثيرة، فإنْ هم لم يُحْسِنُوا ترتيبَها جاء الكلامُ نُتَفًا ينبُو بعضُه عن بعض. وقد رأينا الشعراءَ لا يزيدون في انفكاك الغرض على أكثر من ثلاثة أبيات، ويتوخَّوْن من الصفات ونحوها ما له علاقةٌ بالغرض شديدة، وكذلك شأنُ الكاتب أيضًا.

وأما الانتقالُ من غرض إلى غرض ومن أسلوب إلى أسلوب، فهو زينةُ الكلام للكاتب والشاعر والخطيب، وهو أحسنُ تطريةً لنشاط السامع، وأكثرُ إيقاظًا للإصغاء إليه. ويختصُّ من اللطافة بمثل ما قرره علماءُ المعاني للالتفات، فقد سماه السكاكي "قِرَى الأرواح" (١). ولا بد فيه من مراعاة المناسبة، كما ترى في انتقالاتِ القرآن العظيم.

وأما حسنُ الابتداء والتخلصُ والختامُ، فإنما خُصَّتْ بالبحث وإن كان جميعُ الكلام مشروطًا بالحسن، فذلك لأن الإجادةَ فيها أعسر؛ إذ الابتداءُ هو أولُ ما يقرع السمعَ، وأولُ ما يبتدئ به المتكلِّمُ، وهو مفتاحُ الكلام، فإن هو أتقنه، كان إتقانُه


= صادقين في أنكم غيرُ مدينين فلولا حاولتم عند كل محتضر إذا بلغت الروحُ الحلقومَ أن ترجعوها، فما صرفكم عن محاولة ذلك إلا العلمُ الضروريُّ بأن الروح ذاهبةٌ لا محالة. فإذا علمتَ هذا، اتضح لك انتظامُ الآية التي نُظمت نظمًا يديعًا من الإيجاز، وأُدمج في دليلها ما هو تكملةٌ للإعجاز". تفسير التحرير والتنوير، ج ١٣/ ٢٧، ص ٣٤٣.
(١) قال السكاكي في بيان معنى الالتفات ووظائفه وفوائده: "واعلم أن هذا النوع - أعني نقلَ الكلام عن الحكاية إلى الغيبة - لا يختص المسند إليه، ولا هذا القدر، بل الحكاية والخطاب والغيبة ثلاثتها يُنقل كلُّ واحدٍ منها على الآخر. ويسمى هذا النقلُ التفاتًا عند علماء علم المعاني، والعربُ يستكثرون منه، ويرون الكلامَ إذا انتقل من أسلوبٍ إلى أسلوب أدخلَ في القبول عند السامع، وأحسنَ تطرية لنشاطه، وأملأَ باستدرار إصغائه، وهم أحرياءُ بذلك. أليس قِرَى الأضياف سجيتهم ونحر العشار للضيف دأبهم وهِجِّيراهم؟ . . . أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون فيه بين لون ولون، وطعم وطعم، ولا يحسنون قِرَى الأرواح فلا يخالفون فيه بين أسلوب وأسلوب وإيراد وإيراد؟ ! فإن الكلامَ المفيد عند الإنسان، لكن بالمعنى لا بالصورة، أشهى غذاءً لروحِه وأطيبُ قرًى لها". مفتاح العلوم، ص ٢٩٦ (نشرة هنداوي).

<<  <  ج: ص:  >  >>