للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يأخُذُ في تفريعِه قبل التكلُّم، لكي لا يُرْتَجَ عليه عند الشروع. ثم إنه يُحسِنُ ربطَه، ويُناسِبُ في الانتقال، لكي لا يشذَّ عليه وقتَ الاشتغال بالتكلم بعضُ ما كان أعده؛ فإن لوقت التكلُّمِ ضيقًا غير ما يكون من السَّعَة في حالِ التفكير.

فإذا أخذ بعضُ المعاني بأيدي بعض، وحسُنَ ربطُ بعضِه ببعض، كان أسهلَ استحضارًا وأقربَ تناولًا للسامع والناقل؛ لأن بعضَه يذكِّر ببعض - ومن هذا ما يعبر عنه بحسن التخلص. ثم يعقُبُ ذلك تقريرُ المعنى على حسب ما تقدم في نقد المعاني، ثم الاستدلال عليه، وذلك لا يعسر على الخطيب إن هو أحسن تنسيقَ أصول خطبته؛ لأنه يتمكن منها كمالَ التمكن.

ثم إن الخطيبَ لا يستغني عن الاستكثار من استحضار معانٍ صالحة في أغراضٍ شتَّى يحتاج إليها في الاستدلال على فضلِ شيءٍ أو ضده، لتكون له عونًا عند الاندفاع في الخطابة، وتخفيفًا عن ذهنه من شدة التحضير، ولأنه إذا لم ينفتِحْ له بابُ القول في غرضٍ ارتجالي يأخذ من تلك المعاني ما يدفع عنه عيبَ الإرتاج والْحُبْسة (١). وقد رُوِيَ أن عثمان - رضي الله عنه - لما قام عندما بُويع بالخلافة أُرتِج عليه فقال: "أما بعد فإن لكل قادم دهشة، وأنتم إلى إمام فعَّال أحوج منكم إلى إمام قوَّال، وإن أعِشْ فستأتيكم الخطب على وجهها". (٢)


(١) الإرتاج استغلاق الكلام، والحبسة والاحتباس في الكلام: التوقف وتعذر الكلام عند إرادته. والإرتاج والحبسة كلاهما من عيوب اللسان، مثل العِي والحصر، وقد تناولها العلماء بالبحث في أسبابها والنظر في أنواعها، كما فعل الجاحظ في "البيان والتبيين"، وابن سيده في "المخصص".
(٢) روى هذه الحكايةَ ابن سعد وابن عبد البر وابن عبد ربه والعسكري وابن كثير، وساقها ابن عبد البر بعدة صيغ في بعضها تمريض، حيث قال: "صعد عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم أُرتج عليه فقال: أمّا بعد، فإنّ أول كلّ مركبٍ صعب، وما كنا خطباء، وسيعلم الله، وإن امرأً ليس بينه وبين آدم أب حيٌّ لموعوظ. ويروى أن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - صعد المنبر فأرتج عليه، فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالًا، وأنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال. وروي في هذا الخبر: أنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام قائل. وروي أنّ عثمان لمّا بويع، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم أرتج عليه فقال: وليناكم وعدلنا فيكم، وعدلنا عليكم خيرٌ =

<<  <  ج: ص:  >  >>