للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وكذلك رُوي أن دواد بن علي (١) قام للخطبة، فلما قال: "أما بعد"، أُرتج عليه فقال: "أما بعد فقد يجد المعسر، ويعسر المؤسر، ويُفَلُّ الحديد، [ويقطع الكليل]. وإنما الكلامُ بعد الإفحام كالإشراق بعد الإظلام. وقد يعزب البيان، ويعتقم الصواب، وإنما اللسان مضغةٌ من الإنسان، يفتر بفتوره إذا نكل، ويثوب بانسباطه إذا ارتجل. ألا وإنا لا ننطق بطرًا، ولا نسكت حصرًا، بل نسكت معتبرين، وننطق مُرشِدين. ونحن بعد ذلك أمراء القول، فينا وشجت أعراقُه (٢)، وعلينا عطفت أغصانُه، ولنا تهدلت ثمرته (٣)، فنتخير منه ما احْلُولَى وعذب، ونطرح منه ما املولح وخبث. ومن بعد مقامنا هذا مقام، ومن بعد يومنا أيام، [يعرف فيها فضل البيان وفصل الخطاب] ". (٤)

فبذلك كان في إرتاجِه أبلغَ منه في ارتجاله، ولولا أن هذه المعاني كانت حاضرةً في ذهنه حتى صار بها خطيبًا في بيان أحوال الخطيب، لسكت وحُبس لسانه.


= من خطبتنا فيكم، فإن أعش يأتكم الكلام على وجهه". ابن عبد البر القرطبي، أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد: بهجة المجالس وأُنس المُجالس وشحذ الذاهن والهاجس، تحقيق محمد مرسي الخولي (بيروت: دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٠٢/ ١٩٨٢)، ج ١، ص ١٩؛ الطبقات الكبرى، ج ٣، ص ٥٩؛ ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج ٤، ص ١٥٦ - ١٥٧؛ العسكري: كتاب الصناعتين، ص ١٥؛ ابن كثير: البداية والنهاية، ج ١٠، ص ٢١٦. قال ابن كثير تعليقًا على هذه الرواية: "فهو شيء يذكره صاحب العقد الفريد وغيره ممن يذكر طُرَفَ الفوائد، ولكن لم أر هذا بإسناد تسكن النفس إليه".
(١) هو أبو سليمان من خطباء بني هاشم، "كان أنطق الناس وأجودهم ارتجالًا"، ولم "يتقدم في تحبير خطبة قط". قاله الجاحظ. - المصنف. الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٢٢٤. وهو داود بن علي بن عبد الله بن العباس، أحد عمومة أبي العباس السفاح، كان خطيبًا بارعًا، ولي مكة والمدينة للسفاح. مات سنة ١٣٣ هـ.
(٢) وشجت: اشتبك بعضها ببعض. والأعراق بفتح الهمزة جمع عرق. - المصنف.
(٣) تهدلت استرخت إلى الأرض، أي قربت للمتناول. - المصنف.
(٤) العسكري: كتاب الصناعتين، ص ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>