للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وألفاظٍ بارعة. وقد نقل الجاحظُ عن أبي داود بن حريز أنه قال: "رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام" (١) - وذلك ليعتاد سهولةَ التعبير. كما لا غُنيةَ للخطيب عن معرفة أحوال الأمم ومحامدهم ومذامهم؛ فإن ذلك مما يعرِضُ للخطيب ويُعينُه على التكلُّم في المجامع، ليأخذَ من ذلك أمثالًا صالحة أو تحذيراتٍ نافعة، ولأنه يستعين به على تأييد أنصاره أو الحطِّ من أعدائهم.

وقد حضر الخطيبُ خالد بن صفوان الأهتمي بمجلس أبي العباس السفاح، "ففخر عليه ناسٌ من بلحارث بن كعب، وأكثروا في القول"، فقال له السفاح: "ما لك لا تتكلم يا خالد؟ فقال: أخوال أمير المؤمنين وأهله، قال: فأنتم أعمام أمير المؤمنين وعصبته فقُل". فقال خالد حينئذ: "وما عسى أن أقول لقوم كانوا بين ناسجِ بُرد، ودابغ جلد، وسائس قرد، وراكب عَرْد (الحمار)، دل عليهم هدهد، وغرَّقتهم فأرة، وملكتهم امرأة" (٢)، أشار إلى أنهم من بقايا سبأ. وقد قال فيه مَكِّيُّ بن سَوَادة الشاعر وجمع في شعره ما يلزم الخطيب:


(١) ولعله من المناسب أن نسوق كلامه في هذا السياق كاملًا كما رواه الجاحظ، وذلك لما له من قيمة فكرية وفنية عالية. قال: "أخبرني محمد بن عباد بن كاسب كاتب زهير ومولى بجيلة من سبى دابق، وكان شاعرًا راويةً وطلابة للعلم علامة، قال: سمعت أبا دواد بن جرير يقول - وقد جرى شيءٌ من ذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه وصعوبة ذلك المقام وأهواله - فقال: تخليص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس عِي، ومسُّ اللحية هُلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب. وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه. وأنشدني بيتًا له في صفة خطباء إياد، وهو قوله:
يَرْمُونَ بِالْخُطَبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيَ المَلَاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ
البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٣٩. وانظر كذلك ابن عبد ربه: العقد الفريد، ج ٢، ص ١٣٣ - ١٣٤.
(٢) الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٢٢٨ - ٢٢٩؛ رسائل الجاحظ، ج ١/ ٢ (كتاب البغال)، ص ٢٠٤؛ التوحيدي، أبو حيان علي بن محمد بن العباس: البصائر والذخائر، تحقيق وداد القاضي (بيروت: دار صادر، ط ١، ١٤٠٨/ ١٩٨٨)، ج ٦، ص ١٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>