أولُها ضبطُ الغرضِ المرادُ التكلُّمُ فيه، وذلك بتصوُّرِه وتصور الغاية منه، وحسنِ تفهمه وإتقانه، والإحاطةِ بِمُهِمِّ ما ينبغي أن يُقال فيه من المعاني. ولا يُهتم بالألفاظ إلا بعد ذلك؛ لأنه إن ابتدأ بانتقاء الألفاظ ضاعت عنه المعاني.
ثانيها التكريرُ ليرسخ إما بإعادة الفكرة فيه المرة بعد الأخرى، وإما بمذاكرة الغير فيه، والتنبه لما عسى أن يكون قد أغفله؛ فإنَّ ما بين الرأيين رأيا. ولأنه بالمذاكرة يرى المتكلمُ هل بلغ إلى حد التأثير في السامعين، حتى أن لم ير منهم التأثير علم أنه لم يتقن الغرض ولم يقتله تعبيرا.
ثالثُها اختيار ساعة نشاط البال، كما ذكر أبو هلال العسكري والجاحظ عن بشر بن المعتمر أنه قال لمن علمه الخطابة:"خذ من نفسك ساعةَ نشاطك، وفراغ بالك، [وإجابتها إياك]؛ فإن قليلَ تلك الساعة أكرمُ جوهرًا، وأشرف حسبًا، وأحسن في الأسماع، [وأحلى في الصدور]، وأسلم من فاحش الخطإ. . . واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومُك الأطولُ بالكد والمطاولة [والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة]. ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا [قصدًا]، وخفيفًا على اللسان [سهلًا]، كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه". (١)
رابعُها تدريبُ القوة الذاكرة، وذلك بتجنب الاعتماد على الكتابة بقدر الاستطاعة. وقد يعسر ذلك على المرء بادئ بدء، فيُغتَفرُ حينئذٍ الاعتمادُ على الكتابة على شرط أن يأخذ في الإقلال من الكتابة تدريجًا، فيكتب عقد الموضوع كالفهرس، ويشير عندها إلى خلاصة الأمثلة. وإذا أخذ في استحضار أول خطبته، فإنه إن استرسل فيها جاءته البقيةُ طوعا. ومع ذلك فقد قيل: إن الذي يعتمد على ذاكرته تُلَبِّيه مسرعة. وإذا قُدِّرَ لبعضِ الخطباء كتابةُ مفكراتِ الخطبة، فمن المستحسَن أن لا يحضرها معه وقتَ الخطابة. ولكن من الخطباء من يضطر إلى ذلك لضعف ذاكرته، ولا ضيرَ في ذلك إذا لم يكثر ترددُ بصره عليها.
(١) الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٩٨ - ٩٩؛ العسكري: كتاب الصناعتين، ص ١٠١.