وبعد، فإنك جَارَيْتَنِي - أطال اللهُ بقاءَك في أشمل سعادة، وأكمل سلامة، لما رأيتني أقصُر ما أستفضله من وقتي، وأستخلصه من وُكدي، على عمل شرح للاختيار المنسوب إلى أبي تمام حبيب بن أوس الطائي، المعروف بكتاب "الحماسة" - أمرَ الشعر وفنونَه، وما قال الشعراءُ في الجاهلية وما بعدها، وفي أوائل أيام الدولتين وأواخرها من الرفعة به، إذ كان الله عز وجل قد أقامه للعرب مقامَ الكتب لغيرها من الأمم، فهو مستودعُ آدابها، ومستَحفَظُ أنسابها، ونظامُ فخارها يوم النفار، وديوانُ حجاجها عند الخصام.
ثم سألتَني عن شرائط الاختيار فيه، وعمَّا يتميز به النظمُ عن النثر، وما يُحمد أو يُذَمُّ من الغلو فيه أو القصد، وعن قواعد الشعر التي يجب الكلام فيها وعليها، حتى تصير جوانبُها محفوظةً من الوهن، وأركانها محروسة من الوهي؛ إذ كان لا يُحكم للشاعر أو عليه بالإساءة أو بالإحسان إلا بالفحص عنها، وتأمّل مأخذه منها، ومدى شأوه فيها، وتمييز المصنوع مما يحوكه من المطبوع، والأَتِيّ المستسهل من الأبِيَّ المستنكَر.
وقضيتَ العجبَ كيف وقع الإجماعُ من النقاد على أنه لم يتفقْ في اختيار المقطوعات أنقى مما جمعه، ولا في اختيار المقصَّدات أَوْفَى مما دوّنه المفضّلُ ونقدَه.
وقلتَ: إن أبا تمام معروفُ المذهب فيما يقرضه، مألوفُ المسلك بنظمه، نازعٌ في الإبداع إلى كل غاية، حاملٌ في الاستعارات كلَّ مشقة، متوصِّل إلى الظَّفر بمطلوبه من الصنعة أين اعتسف وبما عثر، متغلغلٌ إلى توعير اللفظ وتغميض المعنى أنّى تأتّى له وقَدَر. وهو عادلٌ فيما انتخبه في هذا المجموع عن سلوك معاطِفِ ميدانه، ومرتضٍ ما لم يكن فيما يصوغه في أمره وشانه. فقد فَلَيْتُه، فلم أجدْ فيه ما يوافق ذلك الأسلوبَ إلا اليسير. ومعلومٌ أن طبعَ كلِّ امرئ - إذا ملك زمامَ الاختيار - يجذبه إلى ما يستلذُّه ويهواه، ويصرفه عمَّا ينفر منه فلا يرضاه.
وزعمتَ - بعد ذلك أَجْمَعَ - أنك مع طول مجالستِك لجهابذة الشِّعر والعلماء بمعانيه، والمبَرِّزين في انتقاده، لم تقفْ من جهتهم على حدٍّ يؤديكَ إلى المعرفة بجيِّدِه