ومتوسِّطِه ورديئه، حتى تُجرِّد الشهادةَ في شيء منه، وتبُتَّ الحكمَ عليه أو له آمنًا من المجاذبين والمدافعين. بل تعتقد أن كثيرًا مما يستجيزه زيد يجوز أن لا يطابقه عمرو، وأنه قد يُسْتَحْسَنُ البيتُ ويُثْنَى عليه، ثم يُستَهْجَنُ نظيرُه في الشبه لفظًا ومعنى حتى لا مخالفةَ، فيُعرَضُ عنه، إذْ كان ذلك موقوفًا على استحلاء المستحلي واجتواء المجتوي، وأنه كما يُرزق الواحدُ في مجالس الكبار من الإصغاء إليه والإقبال عليه، ما يُحرم صنوُه وشبيههُه، مع أنه لا فضيلةَ لذلك ولا نقيصةَ لهذا إلا ما فاز به من الجَدِّ عند الاصطفاء والقَسْم.
وقلتَ أيضًا: إني أتمنى أن أعرفَ السببَ في تأخُّر الشعراء عن رتبة الكُتَّاب البلغاء، والعذرَ في قلة المترسِّلين وكثرة المُفْلِقِين، والعلةَ في نباهة أولئك وخمول هؤلاء، ولماذا كان أكثرُ المترسِّلين لا يُفْلِقُون في قَرْض الشعر، وأكثرُ الشعراء لا يَبْرعون في إنشاء الكتب؟ حتى خُصَّ بالذكر عددٌ يسير منهم، مثلُ إبراهيم بن العباس الصولي، وأبي علي البصير، والعَتّابي، في جمعهم بين الفنَّيْن واغترَازِهم ركابَ الظَّهْرَيْن. هذا ونظامُ البلاغة يتساوَى في أكثره المنظومُ والمنثور.
وأنا - إن شاء الله وبه الحولُ والقوة - أُورد في كل فصل من هذه الفصول ما يحتمله هذا الموضع، ويمكن الاكتفاءُ به، إذ كان لتقصِّي المقال فيه موضعٌ آخر، من غير أن أنصِبَ لما تُصَوِّرُه النعوتُ الأمثلةَ، تفاديًا من الإطالة؛ لأنه إذا وضح السبيلُ وقعت الهدايةُ بأيسر دليل، والله عزّ وجل الموفِّق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اعْلَمْ أنَّ مذاهبَ نُقَّاد الكلام في شرائط الاختيار مختلفة، وطرائقَ ذوي المعارف بأعطافها وأردافها مفترقة، وذلك لتفاوت أقدار مَنادحِها على اتساعها، وتنازُحِ أقطار مَظَانِّها ومعالِمها، ولأن تصاريفَ المباني التي هيَ كالأوعية، وتضاعيف المعاني التي هي كالأمتعة في المنثور، اتسع مجالُ الطبع فيها ومسرحُه، وتشعَّب مُرادُ الفكر فيها ومطرحُه.