وزان مفهومُها ومحفوظُها، وجاء ما حُرِّرَ منها مصروفًا مِنْ كَدَرِ العِيِّ والخطَل، مُقوَّمًا مِنْ أَوَدِ اللَّحْن والخطأ، سالِمًا من جَنَفِ التأليف، موزونًا بميزان الصواب، يَمُوجُ في حواشيه رَوْنَقُ الصَّفَاءِ لفظًا وتركيبًا، قبِله الفهمُ والتذّ به السمع. وإذا ورد على ضدِّ هذه الصفة صدِئَ الفهمُ منه، وتأذَّى السمعُ به تأذِّيَ الحواسِّ بما يخالفها.
ومنهم مَنْ لَمْ يَرْضَ بالوقوف على هذا الحد فتجاوزه، والتزم من الزيادة عليه تتميمَ المقطع، وتلطيفَ المطلع، وَعَطْف الأَوَاخر على الأوائل، ودلالةَ الموارد على المصادر، وتناسُبَ الفصول والوصول، وتعادلَ الأقسام والأوزان، والكشفَ عن قناع المعنى بلفظ هو في الاختيار أولى، حتى يطابق المعنى اللفظَ، ويسابق فيه الفهمُ السمع.
ومنهم مَنْ ترقَّى إلى ما هو أشق وأصعب، فلم تُقنعه هذه التكاليف في البلاغة حتى طلب البديع: من الترصيع والتسجيع، والتطبيق والتجنيس، وعكس البناء في النظم، وتوشيح العبارة بألفاظ مستعارة، إلى وجوه أُخر تنطق بها الكتب المؤلفة في البديع، فإني لم أذكر هذا القدر إلا دلائلَ على أمثالها. ولكلٍّ مما ذكرته وما لم أذكره رسمٌ من النفوذ والاعتلاء بإزائه ما يضاده، فيُسلم للنكوص والاستفال. وأكثرُ هذه الأبواب لأصحاب الألفاظ؛ إذ كانت للمعاني بمنزلة المعارض للجواري، فأرادوا أن يلتذَّ السمعُ بما يدرك منه ولا يمجه، ويتلقاه بالإصغاء والإذن له فلا يحجبه.
وقد قال أبو الحسن ابن طَباطَبا في الشعر: هو ما إن عَرِيَ من معنى بديع لم يعر من حسن الديباجة، وما خالف هذا فليس بشعر.
ومِنَ البلغاء مَنْ قصد فيما جاش به خاطرُه إلى أن تكون استفادةُ المتأمل له والباحث عن مكنونه من آثار عقله أكثرَ من استفادته من آثار قوله أو مُثُله، وهم أصحاب المعاني. فطلبوا المعاني المُعْجِبة من خواص أماكنها، وانتزعوها جزلةً عذبة حكيمة طريفة، أو رائقة بارعة فاضلة كاملة، أو لطيفة شريفة زاهرة فاخرة. وجعلوا رسومَها أن تكون قريبة التشبيه، لائقةَ الاستعارة، صادقةَ الأوصاف، لائحةَ الأوضاح، خَلابةً في الاستعطاف، عطافةً لدى الاستنفار، مستوفيةً لحظوظها عند الاستهام من