أبواب التصريح والتعريض، والإطناب والتقصير، والجد والهزل، والخشونة واللَّيان، والإباء والإسماح، من غير تفاوت يظهر في خلال إطباقها، ولا قصور ينبع من أثناء أعماقها، مبتسمةً من مثاني الألفاظ عند الاستشفاف، محتجبةً في غموض الصِّيَّان لدى الامتهان، تعطيك مرادَك إن رفقتَ بها وتمنعك جانبَها إن عَنُفْتَ معها.
فإذا كان النثرُ - بما له من تقاسيمِ اللفظ والمعنى والنظم - اتسع نطاقُ الاختيارِ فيه على ما بيناه، بحسب اتساع جوانبها وموادها، وتكاثر أسبابها ومَوَاتِّها، وكان الشعرُ قد ساواه في جميع ذلك وشاركه، ثم تفرَّد عنه وتميز بأن كان حدُّه:"لفظ موزون مقفّى يدل على معنى"، فازدادت صفاتُه التي أحاط الحدُّ بها بما انضم من الوزن والتقفية إليها - ازدادت الكُلَفُ في شرائط الاختيار فيه؛ لأن للوزن والتقفية أحكامًا تُماثلُ ما كانت (١) للمعنى واللفظ والتأليف أو تقارب. وهما يقتضيان من مراعاة الشاعر والمنتقِد مثلَ ما تقتضيه تلك من مراعاة الكاتب والتصفح لئلا يختلَّ لهما أصلٌ من أصولهما أو يعتل فرعٌ من فروعهما.
فإذا كان الأمرُ على هذا، فالواجبُ أن يُتبيَّنَ ما هو عمودُ الشعرِ المعروفُ عند العرب، ليتميَّزَ تليدُ الصنعة من الطريف، وقديمُ نظام القريض من الحديث، ولتُعرفَ مواطئُ أقدام المختارين فيما اختاروه، ومراسمُ إقدام المزيِّفين على ما زيَّفُوه، ويُعلمَ أيضًا فرقُ ما بين المصنوعِ والمطبوع، وفضيلةُ الأَتِيِّ السَّمْح على الأَبِيِّ الصعب، فنقول وبالله التوفيق:
(١) كذا في الأصل، والأولى "كان" لمعاده على ما الموصولية التي تقوم مقام المذكَّر في مثل هذا السياق عادة.