إنهم كانوا يحاولون شرفَ المعنى وصِحتَه، وجزالةَ اللفظ واستقامتَه، والإصابةَ في الوصف - ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال وشوارد الأبيات - والمقاربةَ في التشبيه، والتحامَ أجزاء النظم والتئامَها على تخيرٍ من لذيذ الوزن، ومناسبةَ المستعار منه للمستعار له، ومشاكلةَ اللفظِ للمعنى، وشدةَ اقتضائهما للقافية حتى لا منافرةَ بينهما. فهذه سبعةُ أبواب هي عمود الشعر، ولكلِّ بابٍ منها معيار.
فعيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح، والفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء، مستأنِسًا بقرائنه، خرج وافيًا، وإلا انتقص بمقدار شَوْبه ووِحْشته.
وعيارُ اللفظِ الطبعُ والروايةُ والاستعمال، فما سلم مما يُهَجِّنُه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم. وهذا في مفرداته وجملته مراعًى؛ لأن اللفظة تُستكره بانفرادها، فإذا ضامَّها ما لا يوافقها عادت الجملةُ هجينا.
وعيارُ الإصابةِ في الوصفِ الذكاءُ وحسنُ التمييز، فما وجداه صادقًا في العلوق، ممازجًا في اللصوق، يتعسَّرُ الخروجُ عنه والتبرُّؤُ منه، فذلك سيماءُ الإصابة فيه. ويُروى عن عمر - رضي الله عنهم - أنه قال في زهير:"كان لا يمدح الرجلَ إلا بما يكون للرجال"، فتأمل هذا؛ فإن تفسيره ما ذكرناه.
وعيارُ المقاربة في التشبيه الفطنةُ وحسن التقدير، فأصدقُه ما لا ينتقِضُ عند العكس، وأحسَنُه ما أُوقِع بين شيئين اشتراكُهما في الصفات أكثرُ من انفرادهما ليَبِينَ وجهُ التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوبُ من التشبيه أشهرَ صفات المشبَّه به وأملكَها له؛ لأنه حينئذٍ يدل على نفسه ويحميه من الغموض والالتباس. وقد قيل: أقسام الشعر ثلاثة: "مثلٌ سائر، وتشبيهٌ نادر، واستعارةٌ قريبة".
وعيارُ التحام أجزاء النظم والتئامه على تخَيُّرٍ من لذيذ الوزن، الطبعُ واللسان، فما لم يتعثَّرِ الطَّبْعُ بأبنيتِهِ وعقودِه، ولم يتحَبَّس اللسانُ في فصوله ووصوله، بل استمرَّا