ومنها تَبَيُّنُ مقادير مَن يكتب عنه وإليه، حتى لا يرفعَ وضيعًا ولا يضَعَ رفيعا.
ومنها وزِنُ الألفاظ التي يستعملها في تصاريفه، حتى تجيءَ لائقةً بمن يُخاطب بها، مفخِّمة لحضرةِ سلطانه التي يصدر عنها.
ومنها أن يعرِفَ أحوالَ الزمان وعوارضَ الحدَثَان، فيتصرَّفَ معها على مقاديرِها في النَّقْضِ والإبرام، والبسطِ والانقباض.
ومنها أن يعلم أوقاتَ الإسْهابِ والتطويل، والإيجاز والتخفيف، فقد يتَّفِقُ ما يُحتاج فيه إلى الإكثار حتى يستغرق في الرسالة الواحدة أقدارَ القصائد الطويلة؛ ويتفق أيضًا ما تُغْنِي فيه الإشارةُ وما يجري مجرى الوحْيِ في الدلالة.
ومنها أن يعرف من أحكام الشريعة ما يقف به على سواء السبيل، فلا يشتطُّ في الحكومة، ولا يعدل فيما يخُطُّ عن المحجة. فهو إنما يترسَّل في عهود الولاة والقضاة، وتأكيدِ البيعة والأيمان، وعمارةِ البلدان، وإصلاحِ فسادٍ، وتحريضٍ على جهاد، وسدِّ ثُغورٍ، ورَتْقِ فتوق، واحتجاجٍ على فئة، أو مجادلةٍ لملة، أو دُعاءٍ إلى ألفة، أو نهيٍ عن فرقة، أو تهنئةٍ بعطية، أو تعزيةٍ برزية، أو ما شاكل ذلك من جلائل الخطوبِ وعظائمِ الشؤون التي يُحتَاجُ فيها إلى أدواتٍ كثيرة، ومعرفةٍ مُفْتَنَّة.
فلما كان الأمرُ على هذا، صار وجودُ المضطلِعين بجودة النثر أعزَّ، وعددُهم أنزر. وقد وَسَمَتْهم الكتابةُ بشرفها، وبوأتهم منزلةَ رئاستها، فأخطارُهم عاية بحسب عُلُوِّ صناعتهم، ومعاقد رئاستهم، وشدة الفاقة إلى كفايتهم.
والشعراء إنما أغراضُهم التي يُسَدِّدُون نحوها، وغايتهم التي ينزِعون إليها، وصفُ الديار والآثار، والحنينُ إلى المعاهد والأوطان، والتَّشْبِيبُ بالنساء، والتلطيفُ في الاجتداء، والتَّفَنُّنُ في المديح والهجاء، والمبالغةُ في التشبيه والأوصاف. فإذا كان كذلك، لم يتدانَوْا في المضمار، ولا تقاربوا في الأقدار.
وإذ قد أتينا بما أردنا، ووفَّيْنا بما وعَدْنا، فإنَّا نَشتغل بما هو القصدُ من شرحِ الاختيار، والله الموفِّق للصواب، والصلاة والسلام على رسوله وآله الأخيار.