ومبنى "الشعر" على العكس من جميع ذلك؛ لأنه مبنِيٌّ على أوزانٍ مقدرة، وحدودٍ مقسمة، وقوافٍ يُساق ما قبلها إليها مهيأة، وعلى أن يقوم كلُّ بيتٍ بنفسه غيرَ مفتقرٍ إلى غيره، إلا أن يكون مضمَّنًا بأخيه، وهو عيب فيه. فلما كان مداه لا يمتدُّ بأكثرَ من مقدارِ عَرُوضِه وضَرْبِه، وكلاهما قليل، وكان الشاعرُ يعمل قصيدتَه بيتًا بيتًا، وكلُّ بيتٍ يتقاضاه بالاتحاد، وجب أن يكون الفضلُ في أكثر الأحوال في المعنى، وأن يبلغ الشاعرُ في تلطيفه والأخذ من حواشيه حتى يتسعَ له اللفظ، فيؤديَه على غموضه وخفائه - حدًّا يصير المدركُ له والمشرفُ عليه كالفائز بذخيرةٍ اغتنمها، والظافرِ بدفينةٍ استخرجها. وفي مثل ذلك يحسن امِّحاء الأثر (١)، وتباطؤ المطلوب على المنتظر. فكلُّ ما يُحمد في الترسل ويُختار يُذَمُّ في الشعر ويُرفض.
فلما اختلف المبنيان كما بينَّا، وكان المتولِّي لكلِّ واحد منهما يختار أبعدَ الغايات لنفسه فيه، اختلفت فيهما الإصابتان، لتباين طرفيهما، وتفاوت قُطريهما، وبَعُد على القرائح الجمعُ بينهما. يكشف ذلك أن الرَّجَزَ وإنْ خالف القصيدَ مخالفةً قريبة ترجع إلى تقطيع شأو اللفظ فيه، وتزاحم السجع عليه، قلّ عددُ الجامعين بينهما لتقاصر الطباع عن الإحاطة بهما. فإذا كان الرجزُ والقصيد مع أنهما من واد واحد، أفضت الحالُ بمتعاطيهما إلى ما قلتُ على خلاف يسير بينهما، فالنثر والنظم، وهما في طرفين ضِدَّيْن وعلى حالتين متباينتين، أولى وأخص.
وأما السَّبَبُ في قلةِ البلغاءِ وكثرةِ الشعراء، ونباهةِ أولئك وخمولِ هؤلاء، فهو أن المترسِّلَ محتاجٌ إلى مراعاة أمورٍ كثيرة، إن أهملَها أو أهملَ شيئًا منها رجعت النقيصةُ إليه، وتوجهت اللَّائمةُ عليه.
(١) رُسمت في الأصل و"م": "انْمحاء"، مع وضع شدة على النون. - عبد السلام هارون (شرح ديوان الحماسة، ج ١، ص ١٩، الحاشية ١).