للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد صرَّح الكلامُ النبوي أن هذا المجدد يبعثه الله ويُلهمه لتجديد أمر الدين للأمة، فوجب أن يكون هذا المجددُ قائمًا بعمل مثمرٍ تجديدًا في الدين. وقد أَبَنْتُ فيما مضى معنى التجديد، فيتعين أن تكون لهذا المجدِّد الصفاتُ التي تؤهله لرتق ما فُتِقَ من أمر الدين في زمنه. فإذا كان الفتقُ قد طرأ على ناحية من نواحي علم الدين، تعيَّنَ أن يكون المجددُ في تلك الناحية عالِمًا يؤهله علمُه لإدراك الدين الحق في الغرض المقصود.

وإن كان الفتقُ قد طرأ على الدين من ناحية وَهن نفوذِه ووقوف انتشاره، تعيَّن أن يكون المجددُ في ذلك قادرًا على حماية البيضة، ونصر الشريعة - أي نصر الحق من الدين - لئلَّا يدخل في المجددين مَنْ قام ينصر نِحلةً اعتقادية يعتقد أنها الدينُ وهو فيها زائغ، مثل أبي يزيد راكب الحمار، (١) ومثل أبي عبد الله الشيعي داعية المهدي العبيدي، (٢) أو لإعلان فتنة وانقلاب دولة تحت اسم الدين مثل مهدي


(١) "وهو أبو يزيد مخلد بن كيداد، من قبيلة زناتة البربرية، عاش في مدينة توزر بتونس، وعرف باسم أبي يزيد. نشأ على التعطش للدماء والقتل والثأر، وارتكاب المحرمات والمنكرات. وقد ذكر خبرَه ابنُ خلدون في الجزء الرابع من تاريخه. ومما قال عنه: "وخالط النكارية من الخوارج وهم الصُّفرية، فمال إلى مذهبهم وأخذ به. . . وكان يذهب إلى تكبير أهل ملته، واستباحة الأموال والدماء، والخروج عن السلطان. ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس، وتغيير المنكر سنة ست عشرة وثلاثمائة. ولما مات المهدي، خرج بناحية جبل أوراس، وركب الحمار، وتلقب بشيخ المؤمنين، فاتبعه أمم من البربر" - ولذلك لقب بصاحب الحمار - "ودعا للناصر صاحب الأندلس من بني أمية فاتبعه أمم من البربر". ابن خلدون، عبد الرحمن: تاريخ ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن أكبر، نشرة بعناية خليل شحادة وسهيل زكار (بيروت: دار الفكر، ١٤٢١/ ٢٠٠٠)، ج ٤، ص ٥٢. وقد قامت الثورة التي قادها وعرفت باسم ثورة صاحب أو راكب الحمار في المهدية العاصمة الأولى للفاطميين قبل الانتقال للقاهرة، وذلك في زمن حكم الخليفة العباسي محمد القائم بأمر الله (٣٢٢ - ٣٣٤ هـ) وانتهت في زمن حكم ابنه الخليفة المنصور بالله (٣٣٤ - ٣٤١ هـ).
(٢) قامت الدولة الفاطمية التي عرفت بالدولة العبيدية في إفريقية (تونس) سنة ٢٩٨ هـ بزعامة عبيد الله المهدي الذي ادعى أنه صاحب الحق في الخلافة وأنه حفيد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. وقد مهد لقيامها داعية إسماعيلي هو أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي (من أهل صنعاء، ولي الحِسبة في بعض أعمال بغداد). سار أبو عبد الله الشيعي إلى أبي القاسم الحسن =

<<  <  ج: ص:  >  >>