للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما بعد، فليس بخافٍ على أحد ممن زاول أدب اللغة العربية مزاولة مغرم، ما يجده الأديب من الحسرة على نَزارَة ما بين يديه من شعر بشار بن برد، ذلك الشاعر القرم الذي هو فاتح باب شعر المولَّدين وخاتم عصر الشعراء المتقدمين، وذلك الشعر الذي هو مظهر من مظاهر تحول الشعر العربي من طور إلى طور، والذي يعد بحقٍّ واسطةَ عقدين تضم حواليهما سِمطَي الشعر القديم والشعر الجديد. ويزيده كَلَفًا به وتعطشًا إليه ما يُرى من تَهَمُّمِ أئمة البلاغة لالتقاطه، بعد انفصام عقده وانفراطه.

من أجل ذلك لم يزل ولا يزال المتأدبون يشدون بما تناله أيديهم من شعره، فيزينون به مدوَّنَاتِهم، ويرصعون بفرائده مجموعاتهم. فما خلا غرضٌ من أغراض الشعر إلا وضعوا على رأس مباحثه تاجًا من فرائد بشار، ثم تراهم يتساقطون على التقاط جواهره تساقطَ الطير حيث يُلتقط الحب، سواء في ذلك الحكيم والبليغ والخليع وصريع الحب. وكأنك لا يغيب عنك تلهفُهم على ما تلاشى منه، وتبجحُهم بما يحصلونه تبجحًا له كنه.

وإذ كنت قد حظيت باقتناء جزء ضخم من ديوانه، أحببت أن أعلق عليه شرحًا يقرب للمجتني بعضَ معانيه ونكته؛ لأني رأيتُ شعرَه مفعمًا بخصائص اللغة العربية ونكت بلاغتها، ومحتاجًا إلى بيان ما فيه من غريبها، فعلقت عليه هذا الشرح متوسطًا بين التطويل والاختصار، بينتُ فيه غريبَ لغته وخفيَّ معانيه، ونكت بلاغته وأدبه، وما يشير إليه من عادات العرب وتاريخهم وعادات عصره وتاريخ الرجال والحوادث التي تضمنها شعره بالصراحة أو الإشارة.

وخصصت الاستعمال العربي الفصيح بالبيان، وذكرت في طالع كل قصيدة الغرض أو الحادثة التي قيلت فيها مما ذكره علماء الأدب والتاريخ مع زيادة بيان لما أهملوه، واصطلحت على أن غرض القصيدة إذا كان مذكورًا في أصل الديوان أضعه في الشرح بين هلالين، وإذا لم يكن مذكورًا وذكرته أنا لم أضعه بين الهلالين، ليعلم المطلع أن تعيين الغرض مروِيٌّ في كتب الأدب أو مستخرجٌ من القصيدة نفسها.

<<  <  ج: ص:  >  >>