للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والتعصبات المذهبية وقضاء الأوطار السياسية. وكان مبدأ ظهور الدولة العباسية بُوقًا نفخت فيه تُهَمُ الإلحاد زفيرها، وضربت عليه السياسةُ طبلَ نفيرها؛ إذ أراد دعاةُ العباسية أن يحلوا من قلوب الأمة محلَّ الدولة الأموية، وكانت الأموية قد أينعت محبتُها في قلوب أوليائها، وهم الجم الغفير، بما كان لخلفائها وأمرائهم من الأواصر العربية، وما شبّ في عصرهم من النهضة الأدبية، وما ملك قلوبَ عامتهم من المكارم والعطايا الذهبية.

وكان ينازع العباسيين في الدعوة دُعاةُ الطالبيين، وكان الطالبيون أهلَ سخاء وتسامح، ولم يكن لدُعاة العباسية من هذه الوسائل ما هو قُرَابٌ (١) لما ارتكزت عليه الصلةُ الأموية والقرابة الطالبية، فابتكروا في إيجاد جاذبة هي أعلى وأعظم من كل ما كان يَجلب للأمويين والطالبيين قلوبَ الناس.

هنالك كان ابتكار الجاذبة الدينية: من متٍّ بأقرب قُربَى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتظاهرٍ بتأييد الإسلام، ورَمْيِ أضدادهم بالاستخفاف بهذا الجانب. وإن أحق من يرمونه بهذه الهناة من كان من ملوك الأموية وشيعتها، كما نسبوا إلى الوليد بن يزيد من التجاهر بالمُرُوق ما لا يروج على ذي عقل حصيفٍ صدوره من خليفة المسلمين. وكان المهدي العباسي قد انبرى لتطهير مملكته من المخالفين، وشدّد التنقيبَ على الذين يُنسَبون إلى الزندقة. ولا شك أنه كان يُرائي بذلك، فإن بشارًا مدحه بقوله:

يَصُبُّ دِمَاءَ الرَّاغِبِينَ عَنِ الهُدَى ... كَمَا صُبَّ مَاءُ الظَّبْيَةِ المُتَرَجْرِجُ (٢)

وأحسب أن المهديَّ كان يريد الاستعانةَ بذلك على إماتة نزعة التظاهر بالعصبية الفارسية والشعوبية، فكانوا يَصِمون أبناءَ الفرس بالزندقة، ويتهمونهم بأنهم يُسرّون عقيدة دينهم الأول، ولذلك سَمَّوا الإسرار بالكفر زندقة، مشتقة من


(١) قُرَاب: أي قريب من.
(٢) ديوان بشار بن برد، ج ١/ ٢، ص ٦٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>