للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تَبْكِي نَدِيمَيْكَ رَاحَا فِي حَنُوطِهِمَا ... مَا أَقْرَبَ الرَّائِحَ المُبْقِي مِنَ الغَادِي! (١)

والذي يُستخلص من هذا كله يؤيد ما قدمتُه من تظاهر السببين على قتل بشار: كثرة الناقمين عليه لحسد أو هجاء أو فحش، وخفةُ دينه في سيرته وتهمته بسوء الاعتقاد. ولم يكن حقدُ الناقمين عليه كافيًا في أخذه بالعقوبة، إذ قد كان له في حاله شفيعان أو جُنَّتان تدفعان عنه الأذى، وهما الشعر والعَمَى. فإن مما وُطِّنتْ عليه النفوسُ أن الشاعر يقول ما لا يفعل، فكانت مؤاخذةُ الشعراء مزريةً على مَنْ يؤاخذهم إلا إذا جازاهم على الهجاء بمثله.

وكان مما استقرّ في النفوس أن الضعيفَ والعاجزَ لا يتنازل أهلُ الشرف إلى مضاهاتهما، وكان الناس يتمثّلون [قوله تعالى]: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: ٦١؛ الفتح: ١٧] , فلم يجد الذين لَحِقهم أذى بشارٍ وهجاؤه مسلكًا إلى الانتقام لأنفسهم منه. ولذلك أرادوا تعريضَه لإثارة العامة عليه من جانب سوء العقيدة، وقد ظهرتْ هذه التهمةُ له من أواخر الدولة الأموية.

وأولُ مَنْ أشاع ذلك عليه واصل بن عطاء وأصحابُه من المعتزلة، ولقد مر أنه تسبب له في التغريب عن البصرة. إلا أن وَلَع العامة بشعره حالَ دونَهم ودونَ إلحاق الضُّرِّ به، فلم يزل أعداؤه للعقيدة والمنافسة وللأحقاد يتربصون به الدوائر حتى وجدوا فرصةً للإيقاع به في مدة المهدي حين أصبح الأخذُ على سوء الاعتقاد شديدًا مُرْهبًا. ويؤيّد ذلك أن المهدي في آخر حياة بشار قد تنكّر عليه، وصار يَحرمه جائزته، فمدحه بشارٌ بقصيدة، وذكره إمساكه جائزته، فقال:

إِمَامَ الهُدَى أَمْسَكْتَ بَعْدَ كَرَامَتِي ... وَقَدْ كُنْتَ تُعْطِينِي وَوَجْهُكَ أَبْلَجُ

لَعَمْرِي لَقَدْ أَشْمَتَّ بِي غَيْرَ نَائِم ... فَنَامَ وَهَمِّي سَاهِرٌ يتَوَهَّجُ


(١) ديوان بشار بن برد، ج ١/ ٢، ص ٢٠٨. والقصيدة من الكامل، يمدح فيها بشار المهدي ويفخر بخراسان.

<<  <  ج: ص:  >  >>