فإن مال الناظرُ إلى تصديق ذلك انتقل به إلى حيرة أخرى، وهي أن رجلًا أعمَى مشوّهَ الخلقة، ضعيفَ الثروة، ليس له من سبيل إلى العشق الذي قوامُه استحسان الصورة، وما للنساء فيه رغبة حتى يخادنَّه ويعاشرْنَه عشرة المحبين! أو هل كان ذلك كلُّه تصنّعًا وتحيلًا وجريًا في مضمار الشعراء، كيلا يغادر لهم أكبرَ فنون الشعر يفوتون فيه شوطَه، ولا يرفع وراءهم سوطه؟
وقد وصف بشار أحوالَ الغرام كلَّها، ومدَّ نفَسَ شعره بتفاصيلها، فلم يغادر لشاعرٍ مقالًا في ذلك. وإن وصفَ الغرام وأفانينه هو معظم شعره، ينزع إليه من كلِّ غرض وفي كل مقام. وذلك أسطعُ برهانٍ على شاعريّته، وقوة خياله، وبلاغة كلامه، فيكون حالُ بشار في هذا شبيهًا بحال كُثَيِّر؛ إذ قيل إنه كان مدّعيًا ولم يكن عاشقًا، حسبما روى ذلك أبو الفرج الأصبهاني عن أبي عُبيدة وأبي عُبيد (١).
ولقد استشعر بشارٌ هذا التحير، فأجاب غيرَ مرة بأن الأذن تعشق، وأن الأذن تُبلغ إلى القلب ما تبلغه العين، كقوله:
(١) الذي ذكره أبو الفرج الأصفهاني نسبةُ القول إلى ابن سلام برواية أبي خليفة عنه، وهو أن محمد بن سلام (وهو الجمحي صاحب كتاب طبقات فحول الشعراء) قال: "كان كثير مدَّعيًا ولم يكن عاشقًا، وكان جميل صادق الصبابة والعشق". كما روى أن أبا عبيدة (لا أبا عبيد) قال: "كان جميل يصدق في حبه، وكان كثير يكذب". كتاب الأغاني، ج ٩، ص ٣٢ (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج ٣/ ٩، ص ٥٣٤ (نشرة الحسين). وقد جاء هذا الكلام بلفظ مختلف قليلًا عند ابن سلام حيث يقول: "وكان لكُثيِّر في التشبيب نصيب وافر، وجميل مقدَّمٌ عليه في النسيب وله في فنون الشعر ما ليس لجميل. وكان جميل صادق الصبابة، وكان كثير يقول ولم يكن عاشقًا، وكان راوية جميل". الجمحي: طبقات الشعراء، ص ١٦٨.