للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كُلُّ عَدُوٍّ يُتَّقَى مُقْبلًا ... وأمُّكُّمْ سَوْرَتُها بالعجانْ (١)

وقلّما كان الشتم اختلاقًا منهم.

ثم كثر الهجاء في شعراء الإسلام، بسبب ما بقي بين قبائل العرب من العداوة القديمة وتحقير بعضهم قبائلَ منهم، فكان ذلك في الجاهلية يُشْتَفَى بالسيف، فلما حرم عليهم القتال في الإسلام صاروا إلى التشفي بالكلام، وذلك بالتهاجي والاختلاق فيه، وأكثرُ المخضرمين هجاءً الحطيئةُ، ثم حدث التهاجي بين جرير والفرزدق والأخطل، فكان في بعضه شيء من فُحش، وكان معظمه إقْذاعًا وبذاءَةً. ولم يظهر الفحش في الهجاء إلا في صدر الدولة العباسية، وأحسب أن ذلك مكتسب من بعض عادات الدخلاء في القُرى التي استوطنها العرب من أطراف العراق العجمي.

ظهر الفحش في هجاء بشار وأبي الشَّمقمق وحمّاد عجردٍ وأبي هشام الباهلي، وكلهم من عصر واحد. اشتهر بشار بهجائه المُقْذع الفاحش، وقد كان من المبتدعين في ذلك، وعوتب عليه، فقال: "إني وجدت الهجاءَ المؤلمَ آخَذَ (٢) بضَبْع الشاعر من المديح الرائع، ومَن أراد من الشعراء أن يُكرَم في دهر اللّئام على المديح فليستعِدَّ للفقر، وإلا فليبالغ بالهجاء ليُخاف فيُعطَى" (٣).

وقد هجا بشارٌ جماعةً من أعيان الشهرة، ومنهم أبو مسلم الخراساني ويعقوب بن داود وأخوه صالح لمَّا وَلِيَ البصرة. وهجا واصلَ بن عطاء الغزَّال إمامَ المعتزلة بعد أن كان يمدحه، وهجا سيبويه إمامَ نحاة البصرة، وهجا أبا هشام الباهلي وحمّاد عجرد. ولم يبقَ أحدٌ من أشراف البصرة إلا مُنِي بشيء من هجاء بشار، أو اتّقَى هجاءه.


(١) المرزوقي: شرح ديوان الحماسة، ج ٣، ص ١٤٧٤ (الحماسية ٦٢٠)؛ التبريزي: شرح ديوان الحماسة، ج ٢، ص ٨٧٩ - ٨٨٠ (الحماسية ٦٢١).
(٢) اسم تفضيل أصله "أأخذ" بهمزتين، قلبت الثانية الساكنة ألِفًا للتخفيف. - المصنف.
(٣) الأصفهاني: كتاب الأغاني، ج ٣، ص ٢٠٧ (نشرة القاهرة)؛ الأغاني، ج ١/ ٣، ص ٦٩٠ (نشرة الحسين).

<<  <  ج: ص:  >  >>