للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لفصيح الكلام ومتنافره، وهي وإن كانت مجدية معرفة المتنافر الكريه في السمع فلا غناء فيها من تمييز المستعمل المقبول.

ولكن الذين وفَّوا بهذا العزم في سكوتٍ أغفلَ الشاذينَ في اللغة عن إدراك مغزاهم هم الأئمة الذين عُنوا بجمع ما تكلمتْ به فصحاء العرب، كما فعل أبو تمام في ديوان الحماسة، والجاحظ في كتاب البيان والتبيين، وجميعُ الذين جمعوا دواوين العرب ومختاراتهم. وثم فائدة أخرى لهذه المجموعات، وهي أنها توعي حوافظ مزاوليها بالألفاظ التي استدعتْها المعاني الجائشة بالنفوس، فتنبئك بما يحقُّ لك أن تأخذَه من الألفاظ لتعبّر به عما يخطر لك من المعاني؛ لأن خواطر أهل اللسان متتابعة متشابهة.

وأَوْلَى الدواوين بهذا المقصد المهم دواوينُ الشعراء الذين مزجوا بين كثرة المعاني وفصاحة التعبير عنها، والذين كان عصرُهم عصرَ وفرة المعاني، والتنافس في الفصاحة. وأفضلُ العصور في ذلك هو القرن الأول من عهد الإسلام، فإن حسن أذواق شعرائه قد نفى عن الكلام الألفاظَ الغليظة، وله ذوقُ السهولة في أداء المعاني باختيار الألفاظ الصريحة الدلالة الفصيحة النطق، مع السلامة مما تطرّق إلى الطبقة التي بعدهم من الاختلاط الذي نشأ عنه ضُعف النظمِ ثم اللحن والخطأ فيه.

وشعراء هذا العصر صنفان: صنفٌ من أهل البادية، له مزية حفظ اللغة كيفما اتفق له، بحيث يُعدّ شعرهم أَجْدَى على حفظ اللسان منه على حسن الاستعمال، فوِزانُه وِزانُ القواميس، وهؤلاء مثل العجّاج وابنِه رؤبة ومثلُ ذي الرمّة وأبي النجْم والرَّاعي. وصنف من أهل الحضَر، مُزجت سعةُ علمهم في العربية بجودة ذوقهم في الاختيار والاستعمال، فجاء من ذلك المَزيج مركب هو كخمر بابلَ (١) مزجت بصفوة الثلج، وهؤلاء مثل عُمر بن أبي ربيعة وجَميل بن معمَر وكُثَيّر وبشار.


(١) قال الثعالبي: "خمر بابل: العرب تتمثل بخمر بابل وتراه أفضل الخمور، وبابل سر العراق، ويقال إن بغداد من أرضها. فممن ذكر خمر بابل بعض المحدثين حيث قال:
لمَّا رَأَيْتُ الدَّهْرَ دَهْرَ الجَاهِلِ ... وَلَمْ أَرَ المَغْبُونَ غَيْرَ العَاقِلِ =

<<  <  ج: ص:  >  >>