للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن أكبرَ دليل على عزة وجود ديوانه هو قلةُ المطلعين على عينه، وذلك سببُ ما نراه في كتب المحاضرات والمختارات والمعاني والبديع من قلة التعرض لأبيات بشار، وندرة الزيادة على بيت مفرد أو بيتين، مع التكثر من إنشاد أشعار الشعراء، ومع التنافس في الظفر بشيء من شعر بشار في الأغراض المختلفة، ومع ما لبشار من الشعر في كل غرض.

وإن أكثرَ دواوين الأدب جمعًا لشعر بشار هو كتاب الأغاني، فإنه جمع له في الأجزاء الثالث والخامس والسادس والسابع والثالث عشر ما يبلغ ستمائة بيت. وكذلك كتاب المختار من مختار شعر بشار للخالديين الذي انتقاه وشرحه أبو الطاهر إسماعيل بن أحمد التجيبي القيرواني من أهل القرن الخامس في منتصفه. وقد كان كتابُه مجهولًا، فنشره الشيخ السيد محمد بدر الدين العلوي من أهل عليكرة بالهند، فإنه جمع من مختار شعر بشار نحو ثلاثمائة وثلاثين بيتًا. وقد لاحظتَ أن ديوانه كان أروجَ في بيت مفرد أو بيتين منه، ثم ترى ذلك أخذ يقِلُّ من كتبهم بمقدار تزايد العصور (١)، وتراه بين أهل المشرق أشيعَ منه في بلاد المغرب.

وإن تلاشي ديوانه أو عزة وجوده لَمِمَّا يدعو إلى العجب، وكيف أضاعه المولَعون بأفانين الأدب مع تنافسهم في تحلية مختاراتهم ومحاضراتهم بمختارات منه؟

ولقد يتطلب المتفكر في هذا سببًا لتلاشى الديوان من أيدي أهل الأدب، فيخال أن ما رُمي به من الزندقة هو الذي صرف الناسَ عن الاهتمام بشعره. وهذا خيال باطل؛ إذ لم ينصرف الناس عن رواية شعره والعناية به في أقوى العصور نفورًا من الزندقة، وهو عصر المهدي العباسي وما يليه كما تقدم، على أنهم لم ينصرفوا عن العناية بشعر أبي نواس والأخطل وصالح بن عبد القدوس.


(١) لعل الأولى أن يقال: تقادم أو توالي العصور.

<<  <  ج: ص:  >  >>