ورُبَّما تخيل متخيِّلٌ أن ما لصق ببشار من وشاياتٍ عند أهل الدولة في خلافة المهدي هو الذي أحجم بالناسِ عن إظهار العناية بشعره. وهذا التخيل مثل التخيل السابق؛ لأنا نرى أشدَّ العصور في العناية بشعره هو ذلك العصر بعينه. على أنهم لم يُحجموا عن رواية شعر أبي عطاء السندي في الدولة العباسية، وهو من شيعة بني أمية، ولا عن شعر السيد الحميري وهو من شيعة العلويين، ولا عن شعر الفرزدق في الدولة الأموية وهو من شيعة العلويين.
أما أنا فأعلل تلاشيَ ديوان بشار بسبب أنه أولُ المُولَّدين الذين كانوا على طريقة العرب المتقدمين في العناية بفصاحة الكلام وحسن التعبير عن المعاني بأسلوب عربي، حسبما قدمته في ذكر حديثه مع أبي عمرو بن العلاء (١) وخلف الأحمر في قصيدته التي طالعها: "بكّرَا صاحبيّ قبل الهجير". فزها شعره، وتناقلته الرواة وأعجبوا به أيام كان الذوق العربي لم يزل ماؤه يترقرق في النفوس، وأيام كان القرب من أساليب العرب موضع إعجاب المتأدبين. وقد وجد فيه كلُّ ذي نزعة من الشعر رغبتَه وطِلبته: فمِنْ علماء البلاغة وأئمة المعاني وأساطين المفسرين، إلى الشعراء وأهل المجون والخلاعة والدعارة. وذلك ما لم يدانِه فيه أحدٌ من الشعراء عدا الحسن بن هانئ أبا نواس الحَكَمي. فلذلك وجدوا في شعر بشار غُنية عمن سبقه، فعكف الناسُ عليه، وصرفوا كلَّ همهم إليه.
فلما ضعفت الملكةُ العربية في أذواق المتأدبين في أواخر الدولة العباسية، وأولع الأدباءُ بالمحسنات اللفظية واللطائف المعنوية، ثقل عليهم الشعر الفحل والمذهب الجَزْل، فأنساهم إياه ولعُهم بالمذهب الأدبي الجديد، كما أنساهم شعرَ مثل طَرَفَة وزُهير ولَبيد. فتوزع الشعراء معانِيَ بشارٍ بالسرقة والتصرف، وصوغه في
(١) في الأصل "خلف بن أبي عمرو بن العلاء"، والصواب ما أثبتناه، وقد تقدم ذكرُ هذه القصة وتوثيقها.