للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خلا بنفسه وفكّر مليًّا، ولم يزل ذلك البيت مثبتًا في ديوانه عندنا على الوجه الذي أصلحه به، فما هو إلا أن ذا الرمة بعد تفكره وقع بين رأيين:

أحدهما: أن يكون رأى دلالة نفي كاد على انتفاء مقاربة الفعل بحسب أصل الوضع دلالة غير صريحة في الاستعمال لورودها في ذلك النفي في الاستعمال بوجهين كما في آية: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)} [البقرة: ٧١] وآية: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: ٤٠] بحسب ظاهرها على تفسير الزمخشري، فأراد أن يتجنب تركيبًا محتمل الدلالة مطروقًا للنقد، فغيّر ذلك بما هو دونه في الجزالة، إذ لا يخفى ضعفُ قوله لم أجد أو لم تجد. وهذا ما ظنه به العلامة ابن مالك في شرح التسهيل (١).

الرأي الثاني: أن يكون رأى أن نفيَ كاد نُقل في الاستعمال من دلالته الوضعية إلى دلالة أخرى، فصار قولُهم: ما كاد يفعل، بمنزلة كاد أن لا يفعل، كقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)} [البقرة: ٧١]، حيث جمع بين إثبات وقوع الفعل وبين نفي المقاربة، بحيث صار بيتُ ذي الرمة خطأ في المراد، إذ اقتضى أن رسيس الهوى كاد أن لا يبرح أي وقد برح. ويكون قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: ٤٠] ليس المقصود منه أنه لا يرى يده ولا يقارب، بل المقصود منه أنه يكاد أن لا يراها أي بحيث يراها بجهد وعناء على غير ما فسر به صاحب الكشاف، فيكون ذو الرمة قد أخطأ في عربيته في بيته الأول فأصلح بيته لذلك بالإصلاح الثاني.

وهذا الاحتمال يدخل مغمزًا في الاحتجاج بعربية ذي الرمة. وأنا أرجّح هذا الاحتمال الثاني، وأرى أن نفي كاد في كلام العرب صار من طرق القلب، فهو قلب مطّرد نقل به ذلك التركيب من ظاهره إلى خلاف مقتضى الظاهر، ولا أحسب أن العرب ينفون كاد ويريدون نفي المقاربة، ليدلوا على تعين وقوع الفعل بطريق


(١) ابن مالك: شرح التسهيل، ص ٤٠٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>