يبرح"، حمله ابن شبرمة على هذا المحمل، فقال له: أراه قد برح، أي: لأن مثل قوله: لم يكد يبرح يقتضي أنه قد برح بعد ذلك.
وأما وجه رد معدان (١) نقد ابن شبرمة، فإن كلام ذي الرمة جرى على دلالة ذلك التركيب بحسب الوضع، فان نفي فعل المقاربة يدل بأصله على انتفاء مدلول الفعل وهو المقاربة، فتنتفي مقاربةُ وقوع الفعل بالصراحة، بطريق اللزوم على نفي وقوع الفعل بالأولى. وذلك كقوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}[النور: ٤٠]، فإنه مبالغة في انتفاء رؤية الرائي يدَه في تلك الظلمات، ولهذا الاعتبار فسّر الكشاف قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}[النور: ٤٠]، فقال: "مبالغة في لم يرها، أي لم يقرب أن يراها فضلًا عن أن يراها، ومثله قول ذي الرمة:
فرأيُ صاحب الكشاف موافقٌ لرأي معدان الفيل، ورأي عبد القاهر أن الوضعَ وبعضَ الاستعمال شاهدان لبديهة ذي الرمة ولمعدان الفيل، وأن الاستعمالَ العرفي قد جرى أيضًا بأن يقال ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد حصل، يشيرون بذلك إلى أنه ما حصل إلا بعد جهد وبعد أن كان بعيدًا في الظن حصولُه، كقوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)} [البقرة: ٧١]، وأن ذلك هو الذي أوهم ابن شبرمة، وأوقع ذا الرمة في مثل ذلك الوهم فغيّر بيته بعد التفكر.
أما أنا فأرى أن عربية ذي الرمة ما كانت لتحيد به عن كلامه الأول إلى إصلاحه، لولا أنه رأى نقدَ ابن شبرمة متجهًا وحقًّا، لا سيما وهو قد غيّر بيته بعد أن
(١) الصواب أن الذي رد نقد ابن شبرمة هو الحكم بن البخترى بن المختار. دلائل الإعجاز، ص ٢٧٥.