للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد مثلَتْ حالةُ المسلمين في القرن الثامن للناظر إليها من خلال كلامنا المتقدم حتى كأنها منه رأيُ العين، وحتى برئ أن يخالجه في استجلائها اشتباهٌ أو مين. (١) وقد رأى كيف انصدع بناءُ الجامعة الإسلامية مرارًا، ثم كيف مُنح صدعُه انجبارًا يعقب انجبارًا. ولقد وهت من جراء انصداعه المتكرر شرفةٌ كانت حاميةَ جلاله وأبهة جماله، ألا وهي شرفة الخلافة، فقد نشأ الإسلام مقارنًا لمنصب عظيم هو ولاية أمور أتباعه، والتيقظ لتنفيذ مقاصده في سائر أصقاعه، ولي ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته وقام به خلفاؤه من بعده.

فكانت الخلافةُ الإسلامية أكبرَ ضمانٍ لوحدة المسلمين، يستظلون بلوائها، وإذا انتابها خطبٌ تألموا للأوائها. ثم زالت حرمةُ الخلافة بثورة دعاة العباسيين وتمزيقهم إهاب الخلافة الأموية، فما استتبَّ الأمرُ للعباسيين بعد لأي حتى تطرق الوهنُ للخلافة حين انشقت عنها الدولةُ الأموية بالأندلس والحسنية بالمغرب الأقصى. ولقد تحمل خلفاءُ العباسيين ذلك على تبرم، ولسان الحال ينشدهم:

فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا (٢)


(١) المين هو الكذب، والراجح أن المصنف استخدم هذه اللفظة هنا بمعنى الشك والريب.
(٢) وفي رواية أبي الفرج الأصفهاني: "من سيرة" بدل "من سنة". قيل إن أول من قَالَ ذلك خالدٌ بن زهير الهذلِي، وهو ابن أخت أبى ذُؤَيب الهُذَلِي، وذلكَ أن أبا ذُؤَيب كان قد نزل في بنى عامر بن صَعْصَعة على رجل يُقَالُ له عبد عمرو بن عامر، فعشقته امرأة عبد عمرو وعَشقها، فَخَبَّبَهَا على زوجها وحَمَلها وهرب بها إلى قومه. فلما قدم منزلهُ تخوَّفَ أهْلَه، فأسَرَّهَا منهم في موضع لَا يُعلم، وكان يختلف إليها إذا أمكنه ذلك. وكان الرسولُ بينه وبينها ابنَ أختٍ له يُقَال له خالد، وكان غلامًا حَدَثًا ذا جمال وصَباحة، فدام الحالُ على ذلك مدة، وشَبَّ خالد وأدرك، فعشقته المرأة ودَعَتْه إلى نفسها، فأجابها وَهَوِيها، ثم إنه حَمَلَها من مكانها ذاك وأحلها في مكان آخر، وجعل يختلف إليها فيه، ومنع أبا ذؤيب عنها، فأنشأ أبو ذؤيب قصيدة طويلة يعتب فيها على ابن أخته ويتهمه بخيانة الأمانة، منها:
وَمَا حُمِّلَ الْبَخْتِيُّ عَامَ غِيَارِهِ ... عَلَيْهِ الْوُسُوق بُرُّهَا وَشَعِيرُهَا
بِأَعْظَمَ مِمَّا كُنْتُ حَمَّلْتُ خَالِدًا ... وَبَعْضُ أَمَانَاتِ الرِّجَالِ غُرُورُهَا =

<<  <  ج: ص:  >  >>