للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو يسأل العباس عن كل كتيبة، والعباس يعرفه بقبائلها، فلما بهره ذلك المشهد قال للعباس: "قد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا"، فأنكر عليه العباس قوله "ملك"، وقال له: "إنما هي رسالة لا ملك". (١)

وقد كنتُ أسمع من رجل عظيم من أهل العلم والسياسة قدس الله روحه ينكر على ابن خلدون تحويمه في مواضع حول أن يعد عصر النبوة عصرًا ملكيًّا، ويعلل إنكارَه بأن وصف النبوة أعظمُ وأشمل من وصف رسخت له في نفوس الناس عوارضُ غيرُ محمودة صارت كاللوازم له.

ثم قال في صحائف ٥٢ - ٥٣ - ٥٤: "إن دعوة الدين إلى الله بتحريك القلوب بوسائل الإقناع، فأما القوة والإكراه فلا يناسبان دعوةً غرضها هداية القلوب وما عرفنا في تاريخ الرسل رجلًا حمل الناس على الإيمان بحدّ السيف". ثم تلا آية الإكراه في الدين وغيرها، وقال: "وإذا كان - صلى الله عليه وسلم - قد لجأ إلى القوة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وما نفهم منه إلا أنه كان في سبيل الملك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، [ولا تقوم حكومة إلا على السيف وبحكم القهر والغلبة] , فذلك هو سّر الجهاد"، ومثله الزكاة والجزية والغنائم، فذلك "خارجٌ عن وظيفة الرسالة من حيث هي، وبعيد عن عمل الرسل"، وكذلك توجيه الأمراء، إلخ.

وههنا قد ارتكب المؤلف ضروبًا من الخطأ: فأما زعمه أن الدعوة إلى الدين تنافي استعمالَ القوة والإكراه فمردود؛ لأن الدعوة للدين يُقصد منها حملُ الناس على صلاح أمرهم. فالابتداء بالدعوة ظاهر، ثم إنْ هم عاندوا وجحدوا ولم تقنعهم الدعوة والأدلة فلا جرم أن يكون استصلاحُهم هو القوة، كما يُحمل الصبي على


(١) ولفظ العباس كما ذكره ابن إسحاق: "يا أبا سفيان، إنها النبوة". ابن هشام: السيرة النبوية، ج ٢/ ٤، ص ٣٧. وعند ابن سعد: "فقال [أبو سفيان]: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا! فقال العباس: ويحك! أنه ليس بملك ولكنها نبوة! قال: نعم". كتاب الطبقات الكبير، ج ٢، ص ١٢٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>