للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانيًا: أن الكتاب يستعملون فعل أشعل في موضع أوقد، قال أبو يعلى: "وقد ورد في القرآن أشعل في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: ٤] , وليس ذلك بمعنى أوقد، ولم يرد في الشعر اشتعل بل ورد أوقد.

وهذا تضييقُ واسع من أبي يعلى؛ فإن فعل "أشعل" وما تصرف من مادته كله عربي فصيح، وقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: ٤] استعارةٌ بديعة في تشبيه انتشار البياض في سواد شعر الرأس بالتهاب النار في الفحم، ولولا ذلك لما كان هذا اللفظُ في الآية واقعًا موقعَه البديع من البلاغة، كما بينه علماء البيان، قال في اللسان لما ذكر قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا}: "وأصله من اشتعال النار". وكذلك إنكاره ورودَ الاشتعال بمعنى الوقود في شعر العرب قصور واضح، فقد قال لبيد في معلقته:

فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبُّ ضِرَامُهَا (١)

فالمشعلة هي النار وهو اسم مفعول من أشعل النار بمعنى أوقدها، وقد أشار إلى استعمالي الاشتعال في الحقيقة والمجاز قول أبي بكر بن دريد في مقصورته اللغوية:

وَاشْتَعَلَ المُبْيَضُّ فِي مُسْوَدِّهِ ... مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الغَضَا (٢)

ثالثها: أنهم يستعملون لفظ الصدفة بمعنى الاتفاق، وقد التمس لهم عذرًا إذا كان بمعنى المصادفة؛ يعني إذا كان وزن الفعلة هنا جائيًا من صادف. وكلامه في هذا متجه من جهة القياس؛ لأن استعمالَ ما هو مشتقٌّ من الثلاثي في غير الثلاثي يتوقف على السماع، فالظاهر أن استعمال الصدفة توسع.


(١) القرشي: جمهرة أشعار العرب، ص ١٧٥ - ١٧٦. ديوان لبيد، ص ١٠٣.
(٢) وهو البيت الثالث من مقصورة ابن دريد المشتملة على أربعة وخمسين بيتًا ومائتين. انظرها كاملة في: ابن هشام اللخمي، محمد بن أحمد: الفوائد المحصورة في شرح المقصورة، تحقيق أحمد عبد الغفار عطار (بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة، ط ١، ١٤٠٠/ ١٩٨٠)، ص ٧٦ - ٧٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>