للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وزاد الطينَ بلةً وجسدَ الإسلام علةً أن التكافؤ الفكري والتمديني بين الأمم في الشرق والغرب قد اختل، فكانت الأممُ العظيمة في أوروبا قد تفوقت في العلم والتفكير على الأمم الإسلامية بنشاط أولئك وخمول هؤلاء. والتحفز إلى طلب الكمال من أولئك وغرور هؤلاء، فكانت دول أوروبا قد زالت أدواؤها، وقوي ساعد نفوذها، وانبث سفراؤها وعلماؤها ومفكروها في دواخل البلاد الإسلامية، يسبرون أحوالها، فشعروا شعورًا كاملًا بانحلال الجامعة الإسلامية، وتحفزوا لاحتلال مكانها من سيادة العالم.

ولكنهم لم يلبسوا لها جلد النمر، بل دفنوا تحت الرماد شواظَّ الجمر، وجعلوا يكيدون كيدًا، ويتخطون إلى بلاد الشرق رويدًا. فطمعت جمهوريةُ البندقية في السلطة العثمانية، واستولَى أسطولُها العتيد على دواخل الدردنيل، وتساجل الفريقان حروبًا كانت الانهزاماتُ فيها أكثرَ حظوظ الجيوش التركية. على أنه وإن كانت من بين تلك الدول دولٌ تُظهر المودة من غير عداء، فهم وإن لم يباكروها الغارة، ما كانوا يؤملون لجيشها على عدوه انتصارَه، فقالوا في نفوسهم نحن أولى بالغنيمة، وحبائبُ العروس أحقُّ بانتهاب طعام الوليمة:

قَالَتْ رَأَيْتُ الأعَادِي غِرَّةً ... والشَّاةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُوَ مُرْتَمِ (١)

فأما الدولةُ الفارسية فقد كانت في ذلك القرن بعد وفاة الشاه عباس في حالة سكون، وكانت دول أوروبا لاهيةً عنها بتوجه همتها إلى الدولة المزاحمة لعظمتها، وهي الدولة العثمانية.

ثم إن قوةَ أساطيل الدول المحاربة للدولة العثمانية كانت قد رجحت رجحانًا عظيمًا على أساطيل دول الإسلام، فكانت القرصنةُ تنال من المسلمين ما لا تناله قرصنةُ هؤلاء من الأوروبيين، فأصبحت أسرى المسلمين في البلاد الأجنبية أوفرَ


(١) البيت لعنترة من معلقته. ديوان عنترة، ص ٢١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>