للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أخذه علي - رضي الله عنه - فقال حين سُئل عن التقوى: "هي الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيل، والقناعةُ بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرحيل". (١) ومن حيث إن التقوى اتقاء وعيد المخالفة، تعددت أنواعُها بتعدد المأمورات والمنهيات، وقبلت التفاوت في نفسها. وفي التنزيل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧)} [الليل: ١٧]، بصيغة التفضيل أي الذي اتقى الشرك والمعاصي، وكأن التقوى في كل شيء التزام العبودية الخاصة به من أمر ونهي.

قال أكثر المفسرين: إن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنًا له، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكى الفاقة، وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "اتق الله واصبر، وآمرك وإياها أن تستكثرَا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فعاد إلى بيته وقال لامرأته ما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: نِعْم ما أمرنا به، فجعلا يقولان، وغفل العدوُّ عن ابنه فساق غنمهم وكانت أربعة آلاف شاة، وجاء بها إلى أبيه، فنزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: ٢, ٣]. (٢)

وقوله في الحديث: "حيثما كنت" لإفادة تعميم الأمكنة، أي في كل مكان كنت فيه، المراد من ذلك التنبيه على ملازمة التقوى على كل حال. واختار عنوان المكان لما أن الغالب على الإنسان التستر بمكان الانفراد حال التلبس بالمخالفة، لغلبة الجهالة عليه إذاك حتى يغفل عن إحاطة علمه تعالى بكل مكان. ولله در بعضهم حيث يقول: "إذا أردت أن تعصي الله فاعصه حيث لا يراك". ومن ثم عظُم شأنُ الخلوة، وكانت خاتمة خصال السبعة الذين يظلهم الله بظله معبَّرًا عنه بقوله - عليه السلام -: "ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه". (٣)


(١) الصالحي الشامي، محمد بن يوسف: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق مصطفى عبد الواحد (القاهرة: المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ١٩٧٢ - ١٩٧٥)، ج ١، ص ٤٢١.
(٢) انظر في ذلك: الطبري: جامع البيان، ج ٢٣، ص ٤٥ - ٤٦؛ النيسابوري: أسباب النزول، ص ٤٣٥ - ٤٣٦؛ ابن عطية: المحرر الوجيز، ج ٥، ص ٣٢٤.
(٣) صحيح البخاري، "كتاب الزكاة"، الحديث ١٤٢٣، ص ٢٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>