قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحسنةَ تَمحُها"(بفتح همزة أتبع)، بمعنى أن تفعل بعدها بقرب كما هو ظاهر الاتباع. و"أل" في السيئة والحسنة جنسية. وظاهرُ ذلك إرادةُ السيئة بما يشمل الصغيرةَ والكبيرة، ويراد من الحسنة ما يشمل التوبةَ وغيرها من أفعال البر. فالثاني يكفر الأول من السيئات، والأول يكفر الثاني منها. وظاهرُ لفظ المحو كلفظ الإذهاب في قوله جل اسمه:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}[هود: ١١٤]، أنها تُزال من صحف الكاتبين. وهو مدلول قوله جل اسمه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (٣٩)} [الرعد: ٣٩].
وحاصلُ معنى هذه الجملة الشريفة أن السيئة إذا أُتبِعت بِحسنة مُحِيت. وتفصيلُه - كما أشرنا إليه - أن السيئة إذا كانت صغيرةً مَحتها الحسنةُ التابعة كيفما كانت، وإذا كانت كبيرة كان مَحوُها بحسنة مخصوصة هي التوبة. والمرادُ السيئاتُ التي هي من غير حقوق العباد، فلا تُكفَّر إلا بالاستحلال. (١)
واعلم أن تقسيمَ الذنوب إلى كبائر وصغائر مذهبُ جمهور المتكلمين، وعليه تدل آياتُ الكتاب المجيد، كقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}[النساء: ٣١]، وقوله:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات: ٧]. فالفسوق الكبائر والعصيان الصغائر، وإلا لزم التكرار. ومناطُ التقسيم ذات الفعلة وما فيها من المفسدة، دون الالتفات إلى مخالفة الله؛ فإنها بالنظر إلى ذلك على حد واحد، وهي شُبهةُ مَنْ نفي الصغائر.
وعلى مذهب الجمهور اختُلف في تمييز الكبائر من الصغائر اختلافًا أفضى إلى عدم الاعتماد فيه على محصَّل: فمنهم مَنْ سلك طريقَ العد على اختلاف في القلة والكثرة، ومنهم مَنْ سلك طريقَ الضبط بما ورد فيه الوعيدُ بالنار أو ترتب عليه حدٌّ فهو الكبيرة. وكل ذلك لا يفيد تمييزًا، كما يُعلم بمراجعة ما للعلماء في ذلك من
(١) المعنى أن يقترفَ المرءُ هذه السيئات مستحلًّا إياها مع العلم بتحريم الشرع لها.