وأما الثاني فهو وإن كان متجهًا ظاهرًا، إذ يقال لا يُعلم من النهي إلا وجودُ المفسدة، وأما اعتبار مقدارها فقد لا يُدرك كونُه عظيمًا أو حقيرًا، لكنه مدفوعٌ بالالتفات إلى مقصد الشرائع وحفظ كلياتها. فإذا تبين ما قصدَ الشارع حفظَه، تبينت رُتبُ المفاسد ومقاديرُها بالنسبة إلى الخلل اللاحق لذلك المحفوظ. وقد شرح ذلك بما لا مطمعَ للنفس وراءه حَبْرُ هذه الأمة أبو حامد الغزالي، فقال في كتاب التوبة من الإحياء:
"لنا سبيلٌ كلِّيٌّ يمكننا أن نعرف به أجناسَ الكبائر وأنواعها بالتحقيق، وأما أعيانها فنعرفه بالظن والتقريب. ونعرف أيضًا أكبر الكبائر، فأما أصغر الصغائر فلا سبيلَ إلى معرفته. وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعًا أن مقصودَ الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه، وأنه لا وصولَ لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله، وإليه الإشارةُ بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} [الذاريات: ٥٦]، أي ليكونوا عبيدًا لي. ولا يكون العبد عبدًا ما لم يعرف ربَّه بالربوبية ونفسه بالعبودية، ولا بد أن يعرف نفسه وربه. فهذا هو المقصد الأقصى ببعثة الأنبياء، ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا، وهو المعني بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الدنيا مزرعة الآخرة"، فصار حفظُ الدنيا مقصودًا تابعًا للدين؛ لأنه وسيلة إليه. والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان: النفوس والأموال، فكل ما يسد بابَ معرفة الله فهو أكبر الكبائر، ويليه ما يسد حياةَ النفوس، ويليه بابُ ما يسد التي بها حياة النفوس، ويليه باب ما يسد المعايش التي بها حياة الناس. فهذه ثلاث مراتب، [فحفظ المعرفة على القلوب، والحياة على الأبدان، والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها، وهذه ثلاثة أمور لا يُتصور أن تختلف فيها الملل، فلا يجوز أن الله تعالَى يبعث نبيًّا يريد ببعثه إصلاحَ الخلق في دينهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله، أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال] ". (١)
(١) الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد: إحياء علوم الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٤٢٣/ ٢٠٠٢)، ج ٤، ص ٢٦. وما بين الحاصرتين من كلام الغزالي لم يورده المصنف، ورأينا إثباته =