للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ}، جاء بالموصولية دون أن يقول الكعبة - الذي هو عَلَم البيت الحرام - لزيادة الإيضاح؛ إذ قد اتخذت الحبشُ الكعبةَ اليمانية في صنعاء، فحجت إليها خثعمُ وبعضُ قبائل العرب. و"بكة" اسم البلد الذي به الكعبة، وهو مكة، فهو بالباء وبالميم في أوله. وقد ورد الاستعمالان معًا في القرآن، قال تعالى: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} [الفتح: ٢٤]. (١) والعرب يُبْدِلون الباء ميمًا وعكسه إبدالًا غير قياسي، ولا سيما مازن، يقولون: بَاسمك؟ أي: ما اسمك؟ وقد نبه على هذا الإبدال أبو علي القالي في أماليه، كقولهم: لازب ولازم، وقولهم أربد وأرمد. (٢) وفي سماع ابن القاسم من العُتْبِيَّةِ أن مالكًا رحمه الله تعالى قال: "بكة بالباء اسمُ موضع الكعبة، وبالميم بقية البلاد". (٣)

وقد اقتضت الآيةُ أن الكعبةَ أولُ بيت وضع للناس، وظاهِرُ هذا التركيب أنَّها أولُ بيت بُنِيَ للبشر. وقد تناولت أفهامُ المفسرين هذه الآية بتفاسير مختلفة، ونحن نشير إلى مجمل أقوالهم ثم نُتْبِعُها بما نختاره في تفسيرها. حمل قتادة ومجاهد والسدي وقليلٌ من المفسرين الآيةَ عَلى ظاهرها بجعل الأوليةِ حقيقية، والناس على عمومه. فأما مجاهد وغيره فقد أحسوا بأن في بني آدم مباني سابقةً الكعبة، فقالوا: إن أول مَنْ بنى الكعبةَ آدم، وكانت تُسمَّى الضُّرح (بضم الضاد المعجمة)، وأنه رُفع إلى السماء في وقت الطوفان فصارت الملائكةُ تطوف به وتسكنه في السماء، ثم بنى إبراهيمُ الكعبة في موضعه. (٤)


(١) جزء من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤)} [الفتح: ٢٤].
(٢) القالي، أبو علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون: كتاب الأمالي، ومعه ذيل الأمالي والنوادر كلاهما لها، تحقيق صلاح بن فتحي هلل وسيد بن عباس الجليمي (صيدا/ بيروت: المكتبة العصرية، ١٤٢٧/ ٢٠٠٦)، ص ٣١٦ - ٣١٨.
(٣) ابن رشد: البيان والتحصيل، "كتاب الجامع الأول"، ج ١٧، ص ٥٧.
(٤) انظر في هذه الأقوال وغيرها، الطبري: جامع البيان، ج ٥، ص ٥٩١ - ٥٩٤. وقريب منه ما ذكره ابن قتيبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم: المعارف، تحقيق ثروت عكاشة (القاهرة: دار المعارف، ط ٤، ١٩٨١)، ج ٢، ص ٥٥٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>