والرسائل والمراجعات والمتابعات التي نقرؤها له هنا يصدر عن منزع صارم في التحقيق العلمي، واتجاه واضح من النقد الرصين والتبصر العميق، والإحاطة بمعطيات ما يتناوله من موضوعات وما يناقشه من قضايا، يجلل ذلك كلَّه حرصٌ أكيد على الاجتهاد والتجديد بعيدًا عن مجرد التكرار والترديد. فابن عاشور هو العالم والمثقف الموسوعيُّ الذي لم يكد يدع مجالًا من مجالات المعرفة الشرعية والحِكْمية الإسلامية - مقاصد ووسائل - دون أن يكتب فيه كتابةَ العارف البصير والعالم الخبير. ولا نجازف في الحكم ولا نجحف بالحقيقة إن قلنا إنه لا يدانيه - بل لا يضاهيه - في ذلك أحدٌ من علماء تونس وكتابها في القرن العشرين الميلادي، زيتونيًّا "تقليديًّا" كان أو جامعيًّا "حداثيًا".
وربما اعتُرِض علينا بآثار صديق ابن عاشور وخليله الشيخ محمد الخضر حسين عليه رحمة الله، وجوابُنا على ذلك من وجهين: الأول أن إنتاج الشيخ الخضر إنما كان جلُّه في مصر التي كان بها مستقره ومجلى نشاطه ومسرح حركته. أما الوجه الثاني، فحتى إذا راعينا النَّسَب التونسي لهذا الشيخ، فإن أعماله الكاملة التي جمعها ابنُ أخته الأستاذ علي الرضا الحسيني ونشرتها دارُ النوادر في خمسة عشر مجلدًا لا يمكن أن تضاهي حجمًا وكمًّا مصنفات ابن عاشور المطبوعة، فما الظن إذا أضيف إليها ما لم يطبع قط!
وفضلًا عن ذلك، ومهما كان التقديرُ للقيمة العلمية والفكرية الذاتية لما جمعناه في هذه الجمهرة، فإن له قيمةً تاريخية توثيقية كبيرة تعكس جانبًا مهمًّا من الحركة العلمية خلال حِقَبٍ مفصلية من تاريخ تونس وتطورها الثقافي والاجتماعي والسياسي في العصر الحديث. فعسى أن نكون بما صنعناه قد وفرنا قاعدة مادية غنية لدراسات علمية تحليلية صارمة تنظر في مغزى ما كتبه ابن عاشور متواشجًا مع الإشكاليات الرئيسة التي واجهت وما زالت تواجه مساعيَ الإصلاح والتجديد والبناء في تونس وفي غيرها من بلدان العالم العربي الإسلامي، ومتضافرًا مع ما أنتجه زملاؤه ومعاصروه مجاوبةً لتلك الإشكاليات، فتستوي لنا بذلك معرفةٌ علمية رصينة بحركة الأفكار والمفاهيم ونموها وتطورها في سياق التحولات البنوية العميقة التي شهدتها المجتمعات العربية الإسلامية بين عهدي الاستعمار وما بعده.