للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَتْ حَنِيفَةُ أثلاثًا فَثُلْثُهُمُو ... مِنَ العَبِيدِ وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا (١)

ولم يذكر الثلث الثالث. ثم يبقى على هذا الوجه أن بقية الآيات ترك ذكرها اكتفاءً بهاتين الآيتين العظيمتين، أو بما يتضمنه قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} من آيات كثيرة، منها تيسير الأرزاق. ولذلك جمع إبراهيم في دعوته للبلد الحرام ملاكَ الخيرات؛ إذ قال فيما حكى الله عنه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: ١٢٦]. ويجوز أن تكون الآية الثالثة هي مضمون قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: ٩٧] إلخ، لِمَا يقتضيه الحجُّ من الخيرات لأهل مكة.

وقيل إن معنى هذا الخبر الأمر، أي آمنوا من دخله، كقوله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، (٢) أي: فأمنوه. وهو لا يفيد المقصودَ من التشريف، ولكنه يدل على تشريفٍ مقررٍ قديم، والحمل على الأول أَوْلَى. ولا يَرِدُ عليه أنه قد انتُهِكَتْ حُرمةُ أمنه في بعض الأزمنة، مثل ما فعله القرامطة؛ لأن الآيات هي أمنُه فيما مضى يسره الله لهم ليكون ملجأً قائمًا مقامَ العدل، ثم أغنى الله بعد ذلك بالإسلام، ولأن القضايا النادرة لا تقدح في الشرف الأثيل. على أن أَمْنَ مَنْ دخل البيت لا يقتضي أمنَ كل من كان بالمسجد الحرام أو ببلد مكة.

واعلم أن مغزى هذه الآية مع سابقتها هو التنويهُ بملة الإسلام، وبيانُ أنها هي الحنيفيةُ التي فضلها الله تعالى، والتي بعث إبراهيمَ بأصولها، أو أنها دعوةُ إبراهيم فيما حكى الله عنه من قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة: ١٢٩]. فكانت ملةُ الإسلام هي كمالَ الحنيفية وتفصيلها. وقد نصب الله على ذلك آيةً خفية تظهر للمهتدي، وهي أن إبراهيم أظهر الحنيفيةَ في مكة، وأقام لذلك عَلَمًا وهو المسجد الحرام، وأقام ابنه إسماعيل داعيًا لها هنالك.


(١) الزمخشري: الكشاف، ج ١، ص ٣٨٠؛ وانظر البيت في: ديوان جرير، ج ٣، ص ٥٤٥.
(٢) ابن هشام: السيرة النبوية، ج ٢/ ٤، ص ٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>