وربما كان البعض ذاهلًا أو عاجزًا عن هذا المقدار، فلا عجب أنهم ذهلوا عن شيء أكبر منه أفادته العبارة وما أراده قائلها، وهو تمام التشابه بين الأفكار وبين انتساب البُنُوة من جميع أطرافه، حتى تجد مُبْتَكَرَ فكرك منك بمنزلة ابنك أو بنتك، وكأنهم اختاروا الثاني قصدًا للمبالغة في الحرمة والغيرة. واحترام النسب يقع على وجهين:
١ - احترامه قبل قوامه، أي أن يُتَوَخَّى كلُّ ما يدفع اختلاطًا أو فسادًا في النسب، وهو الذي سماه علماء الشريعة حفظ الأنساب، وناطوه مع الكليات التي كانت أساسَ قانون الشرع التفصيلي.
٢ - احترامه من الاعتداء عليه بعد وجوده أن لا يُسَبَّ أو يُنْبَذ، أو يقابل بالطعن.
فإذا كانت الأفكار أنسابًا أدبية، فبغير شك يكون الاجتراءُ عليها بواحد من هذين الجرمين (اللذين احترما بالاحترامين) جنايةً عظيمةً في باب الأدب لو سنَّ له أهلُه حدودًا يُخزى بها المعتدون، ويخسأ بها المتكالبون. وإن وضع شيء في غير ما وضعته يد الزمان، (١) وإن تَفَصَّى عن كُلفة التصنع، لا يفارق مفسدةَ الاجتراء على بعثرة نواميس الكون، والاعتداء على نظامه، وإيهام غير الواقع فيه واقعًا.
وفي ذلك من قلب الحقيقة ما أوجب تحريمَ الكذب، وتكريرَ لعن صاحبه، فإذا كان الكذب الذي يذكرونه التمويه اللساني، فهذا التمويه الفعلي الذي يكون أشد متى كان الفعل أوقع من القول: لو عمدت إلى رجل من سوقة الناس، فأسندت إليه مسائل حققتها أو رسائل نَمَّقتها، لكنت توحي إلى الأمة أن تسند إلى هذا الرجل منصب الرئاسة قي علومها، أو أن تكل إليه قلمها الذي به تدافع عن نفسها، وفي هذا ما يجر الفساد لنفسك ولصاحبك وللأمة، أما الثالثة فقد ضرب فيها الفساد منذ صارت بيد مَنْ لا يعرف كيف يدير، وحسبك من هاته الكلمة تشخيصًا لحالها.